حينما يرصد المرء ما يحدث في العالم، الشواش والبلبلة وتوحُّش الإنسان بالإنسان الذي لم يقوَ أي دين أو نظام اجتماعي – أو ربما فوضى اجتماعية! – على الحيلولة دونه، حينما يرصد نشاطات رجال السياسة والاقتصاد والمصلحين الاجتماعيين في العالم أجمع، يرى بأنهم جلبوا المزيد المزيد من البلبلة، المزيد المزيد من البؤس. الأديان، أي المعتقدات المنظمة، قطعًا لم تساعد من أي وجه على جلب النظام والسعادة العميقة المقيمة إلى الإنسان. ولا اليوطوپيات، سواء الشيوعية أو تلك المجموعات الأقلية التي شكلت جماعات، أفلحت في جلب أي وضوح عميق دائم إلى الإنسان. ويحتاج المرء إلى ثورة هائلة في العالم أجمع؛ فحصول تغيير عظيم أمر ضروري. ونحن لا نعني بذلك ثورة خارجية، بل ثورة داخلية على المستوى النفسي، أضحت بوضوح الأمل الأوحد، الخلاص الأوحد – إذا جاز لنا أن نستعمل هذه الكلمة – للإنسان. لقد جلبت الإيديولوجيات الوحشية، جلبت مختلف صنوف القتل والحروب؛ فالإيديولوجيات، مهما بدت نبيلة، هي في الواقع وبيلة للغاية. لا بدَّ من طفرة كلية في بنية خلايا مخنا نفسها، في بنية الفكر نفسها. ولإحداث مثل هذه الطفرة أو الثورة أو التغيير العميق الدائم، يحتاج المرء إلى مقدار كبير من الطاقة. يحتاج المرء إلى دافع، إلى عزيمة متواصلة ثابتة، لا إلى الاهتمام العارض أو الحماس الزائل الذي يولِّد نوعًا من الطاقة، لكنها لا تلبث أن تتبدد… وتلك الطاقة ما برح الإنسان يأمل أن يحصل عليها عبر المقاومة، عبر الانضباط، المحاكاة، الانصياع الدائم… ومع ذلك، فإن تلك المقاومة، ذلك الانصياع أو الانضباط، مجرد التكيف مع فكرة، لم يمنح الإنسان تلك الطاقة والقوة الضروريتين. لذا على المرء أن يجد عملاً مختلفًا من شأنه أن يجلب هذه الطاقة الضرورية.
في بنية المجتمع الراهنة هذه، في علاقتنا بين إنسان وإنسان، كلما زاد عملنا، تناقَص مقدار الطاقة لدينا. إذ إن في ذلك العمل تناقضًا، تجزئة؛ وبهذا يكون العمل جالبًا للنزاع، وبالتالي، يهدر الطاقة. على المرء أن يجد الطاقة المستديمة، الثابتة، التي لا تتلاشى. وأعتقد أن مثل هذا العمل الذي يولِّد هذه الخاصية الحيوية الضرورية لإحداث ثورة جذرية في الذهن متاح.
العمل – أي "الفعل"، النشاط –، عند غالبيتنا، يحدث تبعًا لفكرة، لوصفة جاهزة أو مفهوم. إذا رصدت نشاطاتك، حركتك اليومية فاعلةً، لرأيت أنك صغت فكرة أو إيديولوجيا، فتراك تعمل تبعًا لها. ومنه، هنالك انقسام بين فكرتك عما يجب عليك أن تفعل، أو عما يجب عليك أن تكون، أو كيف يجب عليك أن تعمل، وبين العمل الفعلي؛ بوسعكم أن تروا ذلك في أنفسكم رؤية واضحة للغاية. فالعمل، إذن، هو دومًا تقريب من الوصفة، من المفهوم، من المثال. وهناك انقسام، فصل، بين ما يجب أن يكون وبين ماهو، مما يسبب الثنائية، وبالتالي هناك نزاع.
رجاءً، لا تكتف بمجرد الاستماع إلى سلسلة من الكلمات – فالكلمات لا معنى لها بحدِّ ذاتها، الكلمات لم تُحدث قط أي تغيير جذري في الإنسان؛ بمقدورك أن تكدس الكلمات، أن تضفر منها إكليلاً، كما تفعل غالبيتنا، فتقتات بالكلمات، لكنها مجرد رماد، وهي لا تجلب الجمال إلى الحياة. الكلمات لا تجلب المحبة، وإذا اكتفيت بمجرد الاستماع إلى سلسلة من الأفكار أو الكلمات، إذ ذاك، أخشى ما أخشاه هو أنك ستذهب خالي الوفاض. أما إذا أصغيت، لا إلى المتكلم وحسب، بل إلى خواطرك أنت، أصغيت إلى طريقتك في الحياة، أصغيت إلى ما يقال، لا كشيء خارجك، بل كشيء يحدث فعليًّا في باطنك، لرأيت عند ذاك حقيقة – أو زيف – ما يقال. على المرء أن يرى ما هو صادق وما هو كاذب بنفسه، لا عبر سواه. ولكي تكتشف ذلك، عليك أن تصغي، عليك أن تولي عنايتك، مودتك، انتباهك، ما يعني أن تكون جديًّا للغاية. والحياة تتطلب أن نكون جديين، لأن الذهن الجدي للغاية وحده ينال الحياة – ينال فيضًا من الحياة؛ أما الفضولي، المفكر، الانفعالي، العاطفي، فليس له من الحياة نصيب.
*
نحن بحاجة إلى طاقة هائلة لإحداث تغيير نفساني في أنفسنا كبشر، لأننا طالما عشنا في عالم من التظاهُر، في عالم من الوحشية، العنف، اليأس، القلق. فلكي يحيا المرء حياة إنسانية، صحيحة، عليه أن يتغير. ولكي يُحدث تغييرًا في باطن نفسه، وبالتالي ضمن المجتمع، فهو بحاجة إلى هذه الطاقة الجذرية؛ إذ إن الفرد لا يختلف عن المجتمع: المجتمع هو الفرد والفرد هو المجتمع. ولإحداث التغيير الجذري، الجوهري، الضروري في بنية المجتمع – وهو فاسد، فاجر – لا بدَّ من تغيير في قلب الإنسان وذهنه. ولإحداث ذاك التغيير، تراك تحتاج إلى طاقة عظيمة؛ وتلك الطاقة تنتفي أو تحرَّف أو يُتلاعَب بها حين تعمل وفقًا لمفهوم، وهو ما نفعله في حياتنا اليومية. فالمفهوم يقوم على التاريخ الماضي، أو على استنتاج ما، وهو، بالتالي، ليس عملاً على الإطلاق، بل تقريب من وصفة جاهزة.
ومنه، يتساءل المرء إنْ كان هناك عمل لا يقوم على فكرة، على استنتاج تشكِّله أشياء الماضي الميتة.
*
أجل، يوجد مثل هذا العمل. وإقرار هذا ليس خلق فكرة جديدة. على المرء أن يكتشف ذاك العمل بنفسه؛ ولكي يكتشف، عليه أن يبدأ بالضبط من بداية سلوكنا البشري، من خاصية ذهننا البشري نفسها. أي أننا لسنا وحدنا أبدًا: قد نتمشى في غابة بمفردنا، لكننا لسنا وحدنا أبدًا. قد تكون مع أسرتك، في المجتمع، لكن الذهن البشري من الإشراط بالخبرة والمعرفة والذاكرة الماضية بحيث إنه لا يعرف ماهية أن يكون المرء وحده. والمرء يخشى أن يكون وحده لأن الوحدة تقتضي – ألا تقتضي؟ – أن يكون المرء خارج المجتمع. قد يعيش المرء في المجتمع، لكن عليه أن يكون خارجًا على المجتمع. وحتى يكون خارجًا على المجتمع، عليه أن يكون حرًّا من المجتمع. المجتمع يتطلب منك أن تعمل تبعًا لفكرة؛ فهذا كل ما يعرفه المجتمع، هذا كل ما يعرفه البشر: الانصياع، المحاكاة، القبول، الطاعة. وعندما يتقبل المرء ما يمليه الموروث، تراه ينصاع للنموذج الذي وضعه المجتمع (ما يعني أن البشر هم الذين وضعوه)، فيكون جزءًا من كل هذا الوجود البشري المشروط الذي يهدر طاقته عبر الجهد الدائم، عبر النزاع والبلبلة والبؤس الدائم. فهل من الممكن للبشر أن يكونوا أحرارًا من هذه البلبلة، من هذا النزاع؟
هذا النزاع، أساسًا، هو بين العمل وبين ما يجب أن يكونه ذلك العمل. والمرء يرصد داخل نفسه، كما يجدر به أن يفعل، كيف لا ينفك النزاع يستنزف الطاقة. إن البنية الاجتماعية بكاملها – التي يجب أن تكون تنافسية، عدوانية، [تتضمن] مقارنة المرء نفسَه بغيره، قبول إيديولوجيا، معتقد، وهكذا – تقوم على النزاع، ليس داخل المرء وحسب، بل في الخارج أيضًا. ثم نقول: "إذا انعدم النزاع ضمن النفس، إذا انعدم الصراع والقتال، سنصير كالحيوانات، سنصير كسالى" – وهو ليس الواقع الفعلي. ترانا لا نعرف أي نوع آخر من الحياة غير الحياة التي نعيشها، وهي الصراع الدائم من اللحظة التي نولد فيها حتى نموت؛ هكذا كل ما نعرفه.
حينما يرصد المرء ذلك، يمكن له أن يرى أي هدر للطاقة هو. لذا على المرء أن يستخلص نفسه من هذه الفوضى الاجتماعية، من هذا الفجور الاجتماعي – ما يعني أن على المرء أن يكون وحده. مع أنك قد تعيش في المجتمع، فأنت لم تعد تتقبل بنيته وقيمه – الوحشية، الحسد، الغيرة، روح التنافس – وبالتالي، أنت وحدك، وحين تكون وحدك فأنت ناضج. النضج لا يمت إلى العمر بصلة.
في العالم أجمع، هنالك تمرُّد، لكن ذلك التمرد لا يتم عبر فهم بنية المجتمع برمتها، وهي ذاتك أنت. ذلك التمرد مجزأ؛ أي أن المرء قد يتمرد على حرب بعينها، أو يقاتل سواه ويقتله في حربه المفضلة، أو يكون مؤمنًا دينيًّا ينتمي إلى ثقافة أو جماعة بعينها – كاثوليكية، پروتستانتية، هندوسية، أو ما شئتم. لكن التمرد يعني التمرد على البنية برمتها، لا على جزء بعينه من تلك الثقافة. وحتى يفهم المرء هذه البنية برمتها، عليه أن يكون واعيًا بها أولاً، عليه أولاً أن ينظر إليها، أن يعيها – أي أن يكون واعيًا بها من غير اختيار. لا يجوز لك أن تختار جزءًا بعينه من المجتمع وتقول: "أستحب هذا، لا أستحب ذاك، هذا يسرُّني وذاك لا يسرُّني"؛ فأنت عندئذ تنصاع لنموذج بعينه وحسب وتقاوم النموذج الآخر، وبالتالي، لا تزال عالقًا بالصراع. لذا فإن المهم هو أولاً رؤية صورة هذا الوجود الإنساني برمتها، وجود حياتنا اليومي؛ رؤيتها – لا كفكرة، لا كمفهوم، بل وعيها فعليًّا كما يعي المرء أنه جائع. الجوع ليس فكرة، ليس مفهومًا، بل هو واقع. بالمثل، فإن رؤية هذه البلبلة، هذا البؤس، الصراع الدائم الذي لا ينتهي، عندما يكون المرء واعيًا من غير اختيار بهذا الأمر كله، إذ ذاك، ينعدم النزاع تمامًا؛ إذ ذاك يكون المرء خارجًا على البنية الاجتماعية لأن الذهن قد استخلص نفسه من عبثية المجتمع.
*
الإنسان – أي كل واحد منا، أينما كنا نعيش – يريد، كما تعلمون، أن يجد حالاً ذهنية، حالاً من العيش، ليست كدحًا، ليست معركة. أنا واثق من أننا جميعًا، مهما نكن متواضعين أو مهما نكن مثقفين، نريد أن نجد طريقة حياة تكون منظمة، مليئة بالجمال والحب العظيم. فهذه كانت مدار بحث الإنسان طوال آلاف السنين، وبدلاً من أن يجدها، تراه استظهرها، وضعها في الخارج هناك، خلق آلهة، مخلِّصين، الكهنة بأفكارهم، وبذلك فوت على نفسه المسألة برمتها. على المرء أن يتنكر لذلك كله، أن يتنكر كليًّا للقبول بوجود السماء عبر سواه، أو عبر اتباع سواه. ما من أحد في العالم ولا في السماء بوسعه أن يهبك تلك الحياة. على المرء أن يشتغل في سبيلها – إلى ما لا نهاية.
*
أتساءل عما نعنيه بالموقف. لماذا نريد اتخاذ موقف؟ وماذا يعني الموقف؟ اتخاذ موقع، التوصل إلى استنتاج. عندي موقف من شيء ما، ما يعني أنني توصلت إلى استنتاج بعد دراسة المسألة، بعد التدقيق فيها، بعد التخطيط لها، بعد سبرها. لقد توصلت إلى هذه النقطة، إلى هذا الموقف، ما يعني أن مجرد اتخاذ موقف هو مقاومة؛ لذا فإن ذاك بحدِّ ذاته عنف. لا نقدر أن نتخذ موقفًا من العنف أو العداوة. فذاك يعني أنك تؤوِّلها تبعًا لاستنتاجك الشخصي، لهواك، لخيالك، لفهمك. ما نسأله هو التالي: هل من الممكن للمرء أن ينظر إلى هذه العداوة في نفسه، هذا الخلق للعدوانية في نفسه، هذا العنف، هذه الوحشية في نفسه، من دون أي موقف، أن يرى الواقع كما هو؟ فأنت ما إن تتخذ موقفًا حتى تحكم سلفًا، حتى تكون منحازًا لجهة ما، وبالتالي، لا تنظر، لا تتفهم ذاك الواقع داخل نفسك.
*
النظر إلى النفس من دون موقف، من غير أي رأي أو حكم أو تقييم، هو واحد من أشق الأمور. ففي هذا النظر هناك وضوح؛ وذاك الوضوح الذي ليس استنتاجًا، ليس موقفًا، هو الذي يبدد بنية الوحشية والعداوة هذه برمتها.
أمستردام، 22 أيار 1968