رأى المرء طائرًا يموت، وقد أطلق رجل عليه النار. كان يطير طيرانًا جميلاً، يضرب بجناحيه ضربات موقَّعة، بكل حرية وعدم خوف، حتى اخترقه رصاص البندقية، فسقط على الأرض وقد فارقته الحياة. ثم جلبه كلب، وراح الرجل يجمع طيورًا ميتة أخرى. كان يهذر مع صديقه، وبدا أنه عديم الاكتراث تمامًا؛ كل ما يشغل باله كان إسقاط أكبر عدد ممكن من الطيور، والأمر فيما يخصه ينتهي عند هذا الحد. إنهم يقتلون في أنحاء العالم كلها: تلك الحيوانات البحرية العظيمة الرائعة – الحيتان – تُقتل بالملايين، والنمر وغيره كثير من الحيوانات باتت الآن أنواعًا مهددة بالانقراض. وحده الإنسان هو الحيوان الذي لا يؤمَن له جانب!
منذ مدة، حين كان نازلاً في ضيافة صديق في موضع مرتفع على التلال، جاء رجل وأخبر المضيف أن نمرًا قتل بقرة في الليلة الفائتة وسأل إنْ كنا نود رؤية النمر ذلك المساء. كان بمقدوره ترتيب الأمر ببناء منصة على شجرة وربط معزاة؛ وبذا يمكن لثغاء المعزاة – الحيوان الصغير – أن يجتذب النمر فنستطيع أن نراه. رفض كلانا إشباع فضوله بهذه القسوة. لكنْ في وقت لاحق من ذلك اليوم، اقترح المضيف أن نأخذ السيارة وندخل الغابة لرؤية النمر إنْ أمكن. وهكذا، بحلول المساء، ركبنا سيارة مكشوفة يقودها سائق وتوغلنا عدة أميال في الغابة. بالطبع لم نبصر شيئًا. كانت الظلمة قد حلت دامسةً، ومصابيح السيارة الأمامية مضاءة؛ وبينما نحن ندور عائدين، أبصرناه جاثمًا عند وسط الطريق منتظرًا لاستقبالنا. كان حيوانًا ضخمًا جدًّا، بديع الخطوط، عيناه، ومصابيح السيارة مسلطة عليهما، تلمعان متلألئتين. ثم أقبل هادرًا صوب السيارة، وبينما كان يمر على بعد بضعة أصابع فقط من اليد الممدودة خارجًا، قال المضيف: "إياك أن تلمسه، فهو شديد الخطورة؛ حذار لأنه أسرع من يدك!" لكنك كنت تستطيع أن تشعر بطاقة ذلك الحيوان، بحيويته؛ كان دينامو ضخمًا للطاقة! وبينما هو يمر عن كثب، شعر المرء بانجذاب هائل نحوه. ثم ما لبث أن توارى في الأدغال[1].
كان الصديق، على ما يبدو، قد رأى العديد من النمور وساعد في شبابه، منذ أمد بعيد، على قتل أحدها، وظل منذ ذاك نادمًا على الفعلة النكراء. القسوة بكل أشكالها تتفشى في العالم الآن، ولعل الإنسان لم يكن يومًا على هذا القدر من القسوة، من العنف، كما هو الآن. كنائس العالم وكهنته ما برحوا يتكلمون على السلام على الأرض؛ من أعلى درجات الهرمية المسيحية نزولاً حتى كاهن أفقر القرى، ما برح الحديث يدور حول عيش حياة طيبة، من غير أذية شيء أو قتله. البوذيون والهندوس بالأخص قالوا من قديم الزمان: "لا تقتل الذبابة، لا تقتل أي شيء، لأنك في الحياة المقبلة سوف تدفع ثمن فعلتك." لقد صيغت تلك العبارة صياغة فجة بعض الشيء، لكن بعضهم حافظ على هذه الروح، على هذه النية بعدم القتل وبعدم أذية إنسان آخر. لكن القتل في الحروب ما زال متواصلاً. الكلب سرعان ما يقتل الأرنب؛ أو الإنسان يطلق النار على سواه بآلاته المرعبة، وربما هو الآخر يرديه سواه قتيلاً. وهذا القتل ما برح متواصلاً آلافًا على آلاف من السنين. بعضهم يتخذه رياضة، بينما يقتل بعضهم الآخر عن نقمة أو غضب أو غيرة، ناهيك عن استمرار الجرائم المنظمة التي تقترفها مختلف الأمم بأسلحتها. يتساءل المرء إنْ كان الإنسان سوف يعيش يومًا على هذه الأرض الجميلة حياة مسالمة، فلا يقتل أبدًا شيئًا حيًّا، أو يُقتل، أو يقتل سواه، بل يحيا في سلام وفي قلبه شيء من الألوهية والمحبة.
في هذا الجزء من العالم، الذي ندعوه الغرب، ربما قتل المسيحيون أكثر من سواهم قاطبة. إنهم ما برحوا يتكلمون على السلام على هذه الأرض! لكن إحلال السلام يقتضي أن يحيا المرء مسالمًا، وذاك يبدو من المحال إطلاقًا. هناك حجج مؤيدة للحرب وأخرى معارضة لها، حجج من قبيل أن الإنسان ما انفك يقتل وسيظل كذلك دومًا، وحجج القائلين بأنه يستطيع أن يُحدث تغييرًا في نفسه فلا يقتل. هذه حكاية قديمة للغاية. لكن الجَزْر المتواصل أضحى عادة، معادلة مقبولة، على الرغم من الأديان جميعًا.
منذ بضعة أيام، كان المرء يراقب صقرًا أحمر الذيل، يحلق عاليًا في السماوات، يرسم دوائر من غير جهد، من غير ضربة من جناح، من أجل متعة الطيران فحسب، فقط من أجل أن تحمله تيارات الهواء. ثم ما لبث صقر آخر أن انضم إليه، وراحا يطيران معًا مدة طويلة. كانا مخلوقين بديعين في تلك السماء الزرقاء، وأذيتهما بأي شكل جريمة بحق السماء. بالطبع ما من "سماء" ثمة؛ فقد اخترع الإنسان السماء بدافع الأمل؛ إذ إن حياته صارت جحيمًا، نزاعًا لا ينتهي من الولادة إلى الموت – جيئة وذهابًا، جنيًا للمال، عملاً من دون توقف. هذه الحياة صارت دوامة، عذاب كدح لا ينتهي. يتساءل المرء إنْ كان إنسان – كائن بشري – سوف يحيا على هذه الأرض يومًا في سلام. ما برح النزاع أسلوبه في الحياة – داخل الجلد وخارج الجلد، في منطقة النفس وفي المجتمع الذي أوجدتْه تلك النفس.
أغلب الظن أن المحبة قد اختفت كليًّا من هذا العالم. المحبة تتضمن الكرم والرعاية، عدم جرح الآخر، عدم إشعار الآخر أنه آثم، بل الكرم والدماثة والسلوك بحيث تولد كلماتك وأفكارك من الرحمة. بالطبع لا تقدر أن تكون رحيمًا إذا انتميت إلى مؤسسات دينية منظمة – ضخمة، قديرة، تقليدية، عقائدية – تصر على الإيمان. فالحب يقتضي الحرية. وذاك الحب ليس لذة أو رغبة، ليس استذكارًا للأشياء الماضية. الحب ليس نقيض الغيرة والكراهية والغضب.
قد يبدو هذا كله، نوعًا ما، من قبيل اليوطوپيا والمثالية، شيئًا لا يستطيع الإنسان إلا أن يتوق إليه وحسب. لكنك إذا كنت تصدِّق ذلك، تراك عندئذ سوف تستمر في القتل. الحب واقعي وقوي واقعيةَ الموت وقوته. إنه لا يمت بصلة إلى الخيال أو العاطفة أو الرومانسية، وبطبيعة الحال، لا يمت بصلة إلى السلطان والمنصب والنفوذ. إنه ساكن سكون مياه البحر، قوي قوة البحر؛ إنه مثل المياه الجارية لنهر غني يتدفق تدفقًا متواصلاً، من غير بداية ولا نهاية. لكن الرجل الذي يقتل صغار الفقمة، أو الحيتان العظيمة، لا يشغل باله غير أسباب عيشه. تراه يقول: "أنا أرتزق من ذلك، تلك تجارتي." إنه لا يشغل باله مطلقًا بذاك الشيء الذي ندعوه "محبة". لعله يحب أسرته – أو يظن أنه يحب أسرته – ولا تشغل باله كثيرًا وسيلة ارتزاقه. ولعل هذا واحد من الأسباب التي تجعل الإنسان يعيش حياة مجزأة؛ لا يبدو عليه أبدًا أنه يحب عمله – وإنْ تكن ثلة من الناس ربما تفعل. لو كان المرء يرتزق من عمل يحبه لاختلف الأمر اختلافًا كبيرًا – لكان المرء تفهَّم كلِّية الحياة. لقد قسَّمنا الحياة إلى أجزاء: عالم الأعمال، عالم الفن، عالم العلم، عالم السياسة، عالم الدين. لكأننا نظن أنها جميعًا منفصلة بعضها عن بعض ويجب أن تبقى منفصلة. وبذا نصير منافقين: نفعل في عالم الأعمال شيئًا بشعًا، فاسدًا، ثم نعود إلى البيت لنعيش في سلام مع أسرتنا – وهذا يولِّد النفاق، حياة نكيل فيها بمكيالين.
إنها لأرض رائعة حقًّا! دأب ذلك الطائر الجاثم على أعلى شجرة أن يجثم هناك كل صباح، راصدًا العالم، مرتقبًا ظهور طائر أكبر، طائر قد يقتله، مراقبًا الغيوم، والظل العابر، والمدى العظيم لهذه الأرض الغنية، لهذه الأنهار والغابات، وجميع الرجال الكادحين من الصباح حتى هبوط الليل. إذا اتفق للمرء أن يتفكر أصلاً في العالم النفساني، لوجده مليئًا بالأسى. ويتساءل المرء أيضًا إنْ كان الإنسان سوف يتغير يومًا، أم أن ذاك يقتصر على القلة، على القلة القليلة وحدها. إذ ذاك ما هي علاقة القلة بالكثرة؟ أو ما هي علاقة الكثرة بالقلة؟ الكثرة لا علاقة لها بالقلة؛ أما القلة فلها علاقة قطعًا.
وأنت جالس على تلك الصخرة، ناظرًا إلى الوادي تحت، وإلى جانبك ضبٌّ، تراك لا تجرؤ على تحريك ساكن لئلا ينزعج الضبُّ أو يفزع. والضبُّ أيضًا يراقب. وهكذا يستمر العالم: مخترعًا الآلهة، تابعًا لهرمية مندوبي الآلهة. وزيف الأوهام وعارها كله سوف يستمر على الأغلب، فتصير آلاف المشكلات أكثر فأكثر تعقيدًا وتشابكًا. وحدها فطنة المحبة والرحمة بمقدورها أن تحل مشكلات الحياة جميعًا. فتلك الفطنة هي الأداة الوحيدة التي لا يمكن لها أبدًا أن تصير بليدة، عديمة الجدوى.