ترانا ندرك وجود انقسام في الحياة، فيَّ، فيك. الـ"أنت" والـ"أنا" عبارة عن أجزاء عديدة. الذات مركَّبة من العديد من الأجزاء. أحد الأجزاء هو الراصد وبقية الأجزاء هي المرصود. الراصد يصير واعيًا بالأجزاء، لكن الراصد هو الآخر واحد من الأجزاء؛ إنه ليس مختلفًا عن بقية الأجزاء. لذا يجب عليك أن تكتشف ما هو الراصد، المختبر، المفكر: ممَّ هو مكوَّن؟ وكيف يحدث هذا الانقسام بين الراصد والمرصود؟ الراصد، نقول، هو واحد من الأجزاء. فلماذا فصل نفسه، فتولى صفة المحلِّل الذي يعي، القادر أن يسيطر، يغيِّر، يكبت، إلى آخر ما هنالك. الراصد هو الرقيب… حاصل الإشراطات الاجتماعية والبيئية والدينية والثقافية. أي أن الانقسامات الثقافية قررت أنك مختلف عن الشيء الذي ترصده… أنت "الذات العليا" وتلك هي "الذات الدنيا"، أنت المستنير وتلك هي غير المستنيرة. فما الذي خوَّله سلطة أن يدعو نفسه "مستنيرًا"؟ ألأنه صار الرقيب؟ والرقيب يقول: "هذا صواب، هذا خطأ، هذا جيد، هذا سيء، يجب أن أفعل هذا، يجب ألا أفعل ذاك" – وهي حصيلة هذا الإشراط، إشراط المجتمع، إشراط الثقافة والدين والأسرة، إشراط العِرْق بأسره، إلى آخر ما هنالك.
الراصد، إذن، هو الرقيب، مشروطًا تبعًا لبيئته، وقد تولَّى سلطة المحلِّل. وكلٌّ من باقي الأجزاء يتولى هو الآخر سلطته؛ لكلِّ جزء سلطته، وبالتالي، هنالك صراع. ومنه، يوجد نزاع بين الراصد والمرصود. فحتى تتحرر من هذا النزاع، عليك أن تكتشف إنْ كان بوسعك أن تنظر من غير عينَي الرقيب؛ أي أن تكون واعيًا، أن تعي بأن عينَي الرقيب هما حصيلة إشراطه. فهل يمكن لتلك العينين أن تنظرا في حرية، أن تنظرا نظرًا بريئًا، حرًّا؟
*
هل يقوى الذهن على التحرر من هذا الإشراط كله؟… أنا مشروط بثقافة ما برحتْ موجودةً منذ ألوف السنين… فهل يمكن لخلايا المخ نفسها أن تتحرر من الإشراط كله، بوصفه الراصد، بوصفه كيانًا ينصاع، بوصفه كيانًا مشروطًا بالبيئة، بالثقافة، بالأسرة، بالعِرْق؟ إذا لم يتحرر الذهن من الإشراط فهو لا يستطيع أبدًا أن يتحرر من النزاع، وبالتالي، من العُصابية… ما لم نتحرر تحررًا تامًّا، فنحن أناس غير متوازنين؛ ومن جراء عدم توازننا، ترانا نتسبب في مختلف صنوف الأذى.
ومنه، فإن النضج هو التحرر من الإشراط. وتلك الحرية ليست قطعًا حصيلة الراصد، الذي هو بالذات مصدر كل ذاكرة، كل فكر. هل بوسعي أن أنظر بعينين لم يمسَسْهما الماضي قط؟ – فتلك هي خاصية العقل السليم. هل بوسعك أن تنظر إلى الغيمة، إلى الشجرة، إلى زوجتك، زوجك، صديقك، من دون صورة؟ وعيُك أن عندك صورة هو أول شيء، أليس كذلك؟ أن تعي أنك تنظر إلى الحياة من خلال وصفة جاهزة، من خلال صورة، من خلال مفاهيم – وهي جميعًا عوامل تحريف – وأن تعي ذلك من دون أي اختيار. فمادام الراصد يعي هذه، هناك عندئذ تحريف. لذا، هل بوسعك أن تنظر، هل بوسع الذهن أن يرصد من دون الرقيب؟ هل بوسعك أن تصغي بلا أي تأويل، بلا أي مقارنة أو حُكْم أو تقييم، أن تصغي إلى ذاك النسيم، إلى تلك الريح، بلا أي تدخُّل من الماضي؟
بركوود پارك، 10 أيلول 1970