كثيرا ما سمعنا في الحديث الشريف أن من أراد أن يُنسأ ويُؤخر له في أجله، وأن يُبسط له في رزقه، فعليه أن يصل رحمه. وكثيرا ما
احتار البعض في ماهية الرابط بين صلة الرحم كنشاط اجتماعي يتسم بالتواصل مع الأقارب ومشاركتهم ومخالطتهم، وطول العمر.
وثمة اليوم من يتحدث للعالم بلغة طبية علمية تتناغم مع هذه الحكمة، ويقول لنا إن التواصل الاجتماعي هو عامل إيجابي التأثير على صحة الإنسان، وإن المقارنة الصحية بين فئة أولئك الذين يبذلون الجهد في تحقيق قدر كاف من التواصل الاجتماعي، وفئة أخرى لأولئك الذين يضعف لديهم أو لا يكون كافيا مستوى التواصل الاجتماعي، تشير إلى أن احتمالات أن تكون أعمار الفئة الأولى أطول من أعمار الفئة الأخرى، هي احتمالات تصل إلى 50%.
وكلنا يعلم أن السمنة وتناول المشروبات الكحولية وتدخين سجائر التبغ وعدم ممارسة الرياضة البدنية اليومية، هي عوامل ترفع من احتمالات خطورة الإصابة بالأمراض، خاصة أمراض القلب، وترفع من معدلات الوفيات منها ومن تداعياتها. لكن ما أعلن عنه الباحثون من جامعة بريغام يونغ، في مدينة بروفو بولاية يوتا الأميركية، مفاده أن ثمة عاملا آخر له تأثير ضار جدا على صحة القلب وعلى سلامة المصابين بأمراضه وعلى التوقعات الطبية المستقبلية لمقدار العمر لديهم.
ووفق ما تم نشره في عدد الأسبوع الأخير من يوليو (تموز) لمجلة «بلوز ميديسن» (PLoS Medicine) الطبية الأميركية، فإن الباحثين ذكروا أن «الترابط الاجتماعي» (social connections) مع الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء، عامل يرفع من احتمالات فرص البقاء على قيد الحياة (odds of survival) بنسبة 50%، كما أن وجود حالة من تدني التفاعل الاجتماعي لدى إنسان ما هو أمر سلبي يمكن مقارنته بالتساوي مع التأثيرات الصحية السلبية لكل من: تدخين 15 سيجارة في اليوم، أو أن يكون الشخص مدمنا لشرب الكحول. وأيضا أكثر ضررا من عدم ممارسة الشخص للرياضة البدنية اليومية. وإذا ما أردنا الاستطراد في المقارنة، يقول هؤلاء الباحثون إن تدني مستوى التواصل الاجتماعي يفوق بمقدار الضعف ضرر السمنة على صحة الإنسان.
وهو ما حدا برئيس تحرير مجلة «بلوز ميديسن» إلى القول خلال تلخيصه للتعريف بالدراسة وسبب إجرائها، إن فكرة النظر إلى تدني مستوى التواصل الاجتماعي، وهو أحد عوامل التسبب بالوفيات، لا تزال غير معترف بها بشكل واسع، لا بين المؤسسات المعنية بالصحة ولا بين عامة الناس.
وكان الباحثون قد تناولوا بالتحليل العلمي نتائج 148 من الدراسات الطبية التي سبق نشرها وتميزت بطول المدة الزمنية في المتابعة، درست العلاقة بين نوعية التفاعلات الاجتماعية والتأثيرات الصحية لها. وبلغ عدد المشمولين في تلك الدراسات نحو 309 آلاف شخص من مختلف المراحل العمرية، ومن الجنسين. كما بلغ متوسط مدة المتابعة في مجمل الدراسات تلك نحو سبع سنوات ونصف السنة. وبالمحصلة لاحظوا تلك العلاقة التي تقدم ذكرها.
وقال الباحثون إن هذه التأثيرات ليست خاصة بصحة كبار السن، بل إن التواصل الاجتماعي يُعطي تأثيرات واقية للناس في كل المراحل العمرية. ولذا أضافوا أن بذل الجهود لرفع مستوى التواصل الاجتماعي لدى الشخص، هو فرصة كبيرة لرفع نوعية المستوى الصحي للشخص ولتقليل احتمالات الوفاة. واستطردوا بالقول إن الأطباء والعاملين المتخصصين في الوسط الطبي، وغيرهم من العاملين في الوسط الإعلامي، يتناولون عادة بشكل جاد طرح المواضيع المتعلقة بمجموعة عوامل الخطورة الصحية، مثل السمنة والتدخين وعدم ممارسة الرياضة البدنية، واتباع الحمية الغذائية الصحية. إلا أن نتائج هذه الدراسة التي نقدمها تفرض إضافة موضوع التواصل الاجتماعي إلى قائمة عوامل خطورة الأمراض عندما يتم طرحها.
والواقع أنه لا مجال لمزيد من التعليق الطبي على هذه الدراسة ونتائجها، فهي تتحدث إلى كل واحد منا بلغة يفهمها جيدا. ويلحظ العاملون في الوسط الطبي كما يلحظ تماما غالبية الناس أننا في عصر تكثر فيه الأمراض وتنتشر فيه الوفيات لأسباب طبية. وكلنا يعلم أن هذه الأمراض والوفيات الصحية لم تكن شائعة في ما مضى. والكل يُحاول أن يتعرف على أسباب ذلك.
وبالفعل تم التعرف على مجموعة من العوامل التي انتشرت في عصرنا ولم تكن كذلك في السابق. ومنها الكسل وعدم بذل الجهد البدني في الحركة اليومية، وهو ما أصبح سمة لحياتنا، ولم يكن كذلك في السابق. ومنها السمنة التي انتشرت بين الصغار والكبار، ولم تكن كذلك في السابق. ومنها تناول الأطعمة غير الصحية وغير الطبيعية التي تُعد بطرق غير تلك التي كانت في السابق. والتواصل الاجتماعي في الأفراح وفي الأتراح كان سمة تميز حياة السابقين، وفي حياتنا اليومية المعاصرة جرفتنا عوامل شتى نحو تدنى التواصل الاجتماعي، وبحجج واهية. وأمسينا اليوم لا ندفع ثمنها فقط من صحتنا وراحتنا النفسية، بل من أعمارنا أيضا.
* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
دنيا الوطن