للسنة
النبوية مكانة عظيمة في التشريع الإسلامي ، فهي الأصل الثاني بعد القرآن
الكريم ، والتطبيق العملي لما جاء فيه ، وهي الكاشفة لغوامضه ، المجلية
لمعانيه ، الشارحة لألفاظه ومبانيه ، وإذا كان القرآن قد وضع القواعد
والأسس العامة للتشريع والأحكام ، فإن السنة قد عنيت بتفصيل هذه القواعد ،
وبيان تلك الأسس ، وتفريع الجزئيات على الكليات ، ولذا فإنه لا يمكن للدين
أن يكتمل ولا للشريعة أن تتم إلا بأخذ السنة جنباً إلى جنب مع القرآن ، وقد
جاءت الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة آمرة بطاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم- ، والاحتجاج بسنته والعمل بها ، إضافة إلى ما ورد من إجماع
الأمة وأقوال الأئمة في إثبات حجيتها ووجوب الأخذ بها .
أدلة الكتاب
دلت عدة آيات من القرآن الكريم على حجية السنة ، ووجوب متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم – ومن ذلك :
- الآيات التي
تصرح بوجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه ، والتحذير من
مخالفته وتبديل سنته ، وأن طاعته طاعة لله ، كقوله سبحانه : { يـا أيـها
الذين آمـنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } (محمد 33) ،
وقوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ( سورة النساء80) ، وقوله :{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب } (الحشر 7 ) .
- الآيات التي رتبت الإيمان على طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والرضا بحكمه ، والتسليم لأمره ونهيه كقوله تعالى : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا } (الأحزاب 36) ، وقوله سبحانه :{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلمواً تسليماً } (النساء 65) ، وقوله :{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ( النور51).
- الآيات
التي تبين أن السنة في مجملها وحي من الله عز وجل ، وأن الرسول - صلى الله
عليه وسلم - لا يأتي بشيء من عنده فيما يتعلق بالتشريع ، وأن ما حرم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بسنته ، مثل ما حرم الله في كتابه ، كقوله
سبحانه :{ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين } ( الحاقة 44-47 ) ، وقوله جل وعلا : {قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله
ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون } (التوبة:29 ) ، وقوله جل وعلا : {الذين
يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل
، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم
الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } (الأعراف157 ) .
- الآيات
الدالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – مبين للكتاب وشارح له ، وأنه
يعلم أمته الحكمة كما يعلمهم الكتاب ، ومنها قوله تعالى :{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (النحل 44 ) ، وقوله : {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } (النحل 64) ، وقوله : {لقد
مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }
(آل عمران 164) ، وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة سنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى (
الرسالة 78) : " فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ، فسمعت مَن
أرضى - مِن أهل العلم بالقرآن - يقول : الحكمة سنة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وهذا يشبه ما قال - والله أعلم - لأن القرآن ذُكر ،
وأُتْبِعَتْه الحكمة ، وذكر الله مَنَّه على خلقه : بتعليمهم الكتاب
والحكمة ، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هنا إلا سنّة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وذلك أنها مقرونة بالكتاب ، وأن الله افترض طاعة
رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن
يقال لقول : فرضٌ . إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله : لما وصفنا من أن الله
جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به ..." أهـ .
أدلة السنة :
وأما السنة فقد ورد فيها ما يفوت الحصر ، ويدل دلالة قاطعة على حجية السنة ولزوم العمل بها ومن ذلك :
-
الأحاديث التي يبين فيها - صلى الله عليه وسلم – بأنه قد أوحي إليه القرآن
وغيره ، وأن ما بينه وشرعه من الأحكام فإنما هو بتشريع الله تعالى له ،
وأن العمل بالسنة عمل بالقرآن ، وأن طاعته طاعة لله ، ومعصيته معصية لله جل
وعلا ، كقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( يوشك الرجل
متكئا على أريكته ، يحدث بحديث من حديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله
عز وجل ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ،
ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله ) رواه ابن ماجة ، وفي رواية أبي داود : (
ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول :
عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام
فحرموه ) .
وقوله : (
إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال : يا قوم إني
رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان فالنجاء ، فأطاعه طائفة من
قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ،
فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل
من عصاني وكذب بما جئت به من الحق ) رواه البخاري ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله .... ) ، وفي حديث آخر : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ) .
-
الأحاديث التي يأمر فيها عليه الصلاة والسلام بالتمسك بسنته ، وأخذ
الشعائر والمناسك عنه ، واستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه ،
وينهى عن الكذب عليه ، ويتوعد من فعل ذلك بأشد الوعيد ، كقوله : ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ) رواه البيهقي وغيره ، وقوله : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ) رواه أبو داود ، وقوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) رواه البخاري ، وقوله : ( خذوا عني مناسككم ) رواه النسائي .
وقوله : ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه ..... ) رواه الترمذي وغيره ، وقوله - كما في البخاري - : ( إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ).
عمل الصحابة
وعلى
ذلك كان عمل الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج بسنته - صلى الله عليه
وسلم - والاقتداء بهديه ، وامتثال أوامره ، والرجوع إليه في الدقيق
والجليل ، فكانوا أحرص الخلق على ملاحظة أقواله وأفعاله وحفظها والعمل بها ،
وبلغ من اقتدائهم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك ، من دون أن
يعلموا لذلك أي سبب أو حكمة كما روى البخاري عن ابن عمر رضي
الله عنهما قال : " اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب
فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ، ثم نبذه النبي - صلى الله عليه وسلم – وقال : ( إني لن ألبسه أبداً ) فنبذ الناس خواتيمهم " .
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال : " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يصلي بأصحابه
إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما
قضى صلاته قال : ما حملكم على إلقائكم نعالكم ، قالوا : رأيناك ألقيت نعليك
فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن جبريل أتاني
فأخبرني أن فيهما قذرا ) .
إجماع الأمة
ولو
تتبعنا آثار السلف ومن بعدهم من الأئمة ، لم نجد أحداً - في قلبه ذرة من
الإيمان وشيء من النصيحة والإخلاص - ينكر التمسك بالسنة والاحتجاج بها
والعمل بمقتضاها ، بل على العكس من ذلك لا نجدهم إلا متمسكين بها ، مهتدين
بهديها ، حريصين على العمل بها ، محذرين من مخالفتها ، وما ذاك إلا لأنها
أصلٌ من أصول الإسلام وعليها مدار فهم الكتاب ، وثبوت أغلب الأحكام ، فعلى
حجية السنة انعقد إجماعهم ، واتفقت كلمتهم ، وتوطأت أفئدتهم ، قال الإمام الشافعي رحمه
الله ( إعلام الموقعين 1/525) : " أجمع الناس على أن من استبانت له سنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس "
، وقال في ( الأم 7/460) : " لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى
علم ، يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - والتسليم لحكمه ، وأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ،
وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم- ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا
في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واحد لا يختلف فيه
الفرض ، وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " .
وقال الإمام ابن حزم عند قوله تعالى :{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }
( النساء 59) : " الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من
يُخْلَق ويُرَكَّب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس ،
كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وكل من أتى
بعده عليه السلام ولا فرق " أهـ ( الإحكام في أصول الأحكام 1/97) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
: " وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاماً يتعمد
مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فى شىء من سنته دقيق ولا جليل .
فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من
الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله " .
تعذر العمل بالقرآن وحده
ومما
يدل على حجية السنة - من حيث النظر- أنه لا يمكن الاستقلال بفهم الشريعة
وتفاصيلها وأحكامها من القرآن وحده ، لاشتماله على نصوص مجملة تحتاج إلى
بيان ، وأخرى مشكلة تحتاج إلى توضيح وتفسير ، فكان لا بد من بيان آخر لفهم
مراد الله ، واستنباط تفاصيل أحكام القرآن ، ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق
السنة ، ولولاها لتعطلت أحكام القرآن ، وبطلت التكاليف ، قال الإمام ابن حزم
رحمه الله : " في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات ، وأن المغرب ثلاث
ركعات ، وأن الركوع على صفة كذا ، والسجود على صفة كذا ، وصفة القراءة فيها
والسلام ، وبيان ما يجتنب في الصوم ، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة ،
والغنم والإبل والبقر ، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ، ومقدار
الزكاة المأخوذة ، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة ، وصفة الصلاة بها
وبمزدلفة ، ورمي الجمار ، وصفة الإحرام وما يجتنب فيه ، وقطع يد السارق ،
وصفة الرضاع المحرم ، وما يحرم من المآكل ، وصفة الذبائح والضحايا ، وأحكام
الحدود ، وصفة وقوع الطلاق ، وأحكام البيوع ، وبيان الربا والأقضية
والتداعي ، والأيمان والأحباس والعمرى ، والصدقات وسائر أنواع الفقه ؟
وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها ، وإنما المرجوع
إليه في كل ذلك النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الإجماع
إنما هو على مسائل يسيرة .....فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ، ولو أن
امرأ قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة " أهـ .
ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير : " لا تحدثونا إلا بالقرآن قال : " والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن ، وكذلك عمران بن حصين رضي الله عنه لما قال له رجل : " إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن " فغضب عمران
وقال : " إنك امرؤ أحمق ، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها
بالقراءة ؟ ، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال : أتجد هذا في
كتاب الله مفسَّرا ، إن كتاب الله أبهم هذا ، وإن السنة تفسر ذلك " .
على أن الأحكام
المستمدة من السنة مأخوذة في الحقيقة من القرآن ، ومستقاة من أصوله ، وذلك
لأن الله أحال عليها في كتابه ، فالأخذ بها في الواقع أخذ بالقرآن ، والترك
لها ترك للقرآن ، وهو ما فهمه الصحابة والسلف رضي الله عنهم ، ولهذا لما
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " ( لعن الله الواشمات ، والموتشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال : لها أم يعقوب
، فجاءت إليه وقالت : إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا
ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله ،
فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت
قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأتِ {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }( الحشر 7) ؟! قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه " رواه البخاري .
فتبين مما سبق
وجوب الاحتجاج بالسنة والعمل بها ، وأنها كالقرآن في وجوب الطاعة والاتباع ،
وأن المستغني عنها هو مستغن في الحقيقة عن القرآن ، وأن طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - طاعة لله ، وعصيانه عصيان لله تعالى ، وأن العصمة من
الانحراف والضلال إنما هو بالتمسك بالقرآن والسنة جميعا ً .