الحمدلله
تعالى خلق الإنسان على أحسن مثال وقسم الأرزاق والآجال.. والصلاة والسلام
على نبي الهدى.. وعلى الآل والأصحاب مصابيح الدجى.. وبعد:
أخي المسلم: إن كل مخلوق في هذه الدنيا يعيش فيها برزق معلوم.. وأجل محدود.. فإذا انقضى رزقه وأجله، حانت ساعة الرحيل.. {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 30]
ماذا أعددت للموت؟؟!
محطة من محطات المحاسبة، قليل وقف عندها!
وأما غالب الناس فيمرون عليها، دون أن يقفوا عندها!
الدنيا! ذلك الطيف العابر! والظل الزائل!
الدنيا! دار الغرور! ومنزل الأحزان!
الدنيا! وفاؤها غدر! وحبها كاذب!
الدنيا! جديدها بالي! وصفوها كدر!
الناس فيها ضيوف عما قليل سيرحلون!
قال ابن مسعود رضي الله عنها: "ما منكم من أحد أصبح إلا وهو ضيف، وماله عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤادة!".
وقال حذيفة رضي الله عنه: "ما من صباح ولا مساء، إلا ومنادي ينادي: أيها الناس الرجيل الرحيل!" وتصديق ذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 35-37]
الموت! وعد صادق.. ولقاء حق!
الموت! قضاء نافذ.. وحكم نازل!
الموت! سهم لا يخطئ.. وطالب لا يفتر!
الموت! كأس سيتجرعه كل الخلائق!
ماذا أعددت لسكراته؟!
ماذا أعددت لفظائعه؟!
هل تذكرت مرارته؟!
هل تذكرت فجائعه؟!
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إذا ذكرت الموتى، فعد نفسك كأحدهم".
وقال ابراهيم التيمي رحمه الله: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا، ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل".
وقال أشعث: "كنا ندخل على الحسن، فإنما هو النار، وأمرالآخرة وذكر الموت".
أخي المسلم: ألا ترى الناس في كل يوم يودعون حبيبًا أو صديقًا.
فهل حرك ذلك منك قلبًا؟!
وهل كان ذلك لك عبرة؟!
إن الخلائـــق في الدنيـــا لو اجتهـــــدوا
أن يحبسوا عنك هذا الموت ما حبسوا
إن المنيــــــة حــوضٌ أنـــت تكــــرهــــه
وأنت عمــــــا قليــــلٍ فيــــه منغمــــسُ
فاسأل نفسك أيها العاقل: ماذا أعددت للموت؟!
وحاسب نفسك.. قبل الرحيل.. وقبل الدخول بين أطباق الثرى! يبدأ المشوار: بتذكر الموت.. واستحضار أهواله!
فكم من غافل عن تلك اللحظات!
وكم من ناس تلك الكربات!
قال حامد اللفاف:
"من أكثر من ذكر الموت! أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القوت،
ونشاط العبادة، ومن نسي الموت، عوقب بثلاثة أشياء، تسويف التوبة، وترك
الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة".
وإذا علمت أيها العاقل أن لك معادًا ومرجعًا إلى ربك تعالى.. فاحذر تلك الساعة.. واعمل لها.. من قبل أن تكون من أهل الحسرات!
{حَتَّى
إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100]
{وَأَنفِقُوا
مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء
أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10-11]
فواحسرة عبد نزل به الموت ولم يقدم صالحًا!
فانظر لنفسك أيها العاقل.. وتدبر أمرك.. بأي وجه تقدم على ربك عز وجل، إذا كنت ممن بارزه بالمعاصي؟!
بأي وجه تقدم على مالك الملوك، إذا كنت من الغافلين.. المعرضين عن طاعة الله تعالى؟!
فاحذر أخي ساعة السكرات! فما أشدها على العصاة! وما أفظعها على أهل الغفلة!
روي عن ابراهيم الخليل عليه السلام، أنه قال لملك الموت: "هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض عليها روح الفاجر؟
قال: لا تطيق ذلك، فإذا هو برجل أسود، قائم الشعر، منتن الريح، أسود الثياب، يخرج من فيه ومناخيره لهيب النار والدخان!
فغشي على ابراهيم عليه السلام، ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند الموت إلا صورة وجهك لكان حسبه!".
أخي المسلم ماذا أعددت لهذه اللحظات؟!
أتظنها بيعدة؟!
فكم من رافل في ثياب الصحة نزلت به المنية بغتة!
وكم من ناعم في العيش، دهمه الأجل بلا ميعاد!
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيــــا بـــدار قــــرار
أعماركم سفر مــن الأسفـار
وتراكضوا خيل السباق وبادروا
أن تستــرد فإنهــــن عـــواري
ودعوا الإقامـــة تحت ظل زائل
أنتم على سفـــر بهــذي الدار
من يرجو طيب العيش فيها إنما
يبني الرجاء على شفير هار
والعيش كل العيش بعد فراقها
في دار أهل السبق أكرم دار
فتهيأ
أيها العاقل ليوم المعاد.. واستعد لساعة السكرات.. فإنه يوم لا ينفعك فيه
إلا صالح ما قدمته.. وميعاد لا تنجو من شدائده إلا بصدق العمل..
ولا يغرنك خفض عيش.. ولا صحة بدن.. وأنت ترى الموت لا يفرق بين صحيح وسقيم..
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله أوصني؟
قال: «اعبد
الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر، وعند كل
شجر، وإذا عملت سيئة، فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية
بالعلانية».
قال عمر بن عبدالعزيز في خطبته:
"إن لكل سفر زادًا لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى،
وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه وعقابه، ترغبوا وترهبوا، ولا يطولن
عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم".
وقد كان من ديدن الصالحين، الاستعداد ليوم الرحيل.. والتزود لسفر الآخرة..
اجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادًا شديدًا فقيل له:
"لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس
مجراها، أخرجت جميع ما عندها والذي بقي من أجلي أقل من ذلك".
فلم يزل على ذلك حتى مات، وكان يقول لامرأته: "شدي رحلك، فليس على جهنم معبرة".
قال القعقاع بن حكيم رحمه الله: "قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة فلو أتاني، ما أحببت تأخير شيء عن شيء".
وقال الثوري:
"رأيت شيخًا في مسجد الكوفة يقول: أنا في المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر
الموت أن ينزل بي! ولو أتاني ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على
أحد شيء، ولا لأحد عندي شيء".
أخي المسلم: إن من عزم على سفر تزود لسفره، وأعد العدة.. فهل أعددت زادًا لسفر الآخرة؟!
فعجبًا لمن أعد للسفر القريب! ولم يعد للسفر البعيد!!
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أفضل؟
قال: «أحسنهم خلقًا».
قال: فأي المؤمنين أكيس؟
قال: «أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس».
قال الحسن البصري: "أربع من زاد الآخرة: الصوم صحة النفس، والصدقة ستر ما بينه وبين النار، والصلاة تقرب العبد من ربه، والدموع تمحو الخطيئة".
أولاها: أن يكون على عبادة ربه مقبلاً
والثانية: أن يكون نفعه للخلق ظاهرًا
والثالثة: أن يكون الناس من شره آمنين.
والرابعة: أن يكون عمّا في أيدي الناس آيسًا
والخامسة: أن يكون للموت مستعدًا
أخي المسلم: حياتك غنيمة، فلا تضيعها في غير الطاعات.. وإن خير زاد تزودت به تقوى الله تعالى وطاعته.. فاعمل ليوم الرقدة الكبرى!
وها هو العمر يسابقك.. فلا يسبقنك، فينقضي عمرك وأنت غافل!
عن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى! ثم قال: «يا إخواني لمثل هذا فأعدوا».
قال نصر بن محمد السمرقندي:
"وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم شدة الموت ومرارته، نصيحة منه لأمته،
لكي يستعدوا له ويصبروا على شدائد الدنيا، لأن الصبر على شدائد الدنيا أيسر
من شدة الموت، لأن شدة الموت من عذاب الآخرة، وعذاب الآخرة أشد من عذاب
الدنيا!".
أخي المسلم: إنه الموت! لا تعلم وقت نزوله فتحذره.. فاحذر بغتته.. واستعد لنزوله!
وحري بمن غيبت نهايته، أن يتهيأ لها.. ويعد العدة قبل حلولها..
قال عاصم الأحول:
"قال لي فضيل الرقاشي: وأنا سائله: يا هذا لا يشغلك كثرة الناس عن نفسك،
فإن الأمر يخلص إليك دونهم! ولا تقل: أذهب هاهنا وهاهنا، فينقطع عنك النهار
في لا شيء، فإن الأمر محفوظ عليك، ولم تر شيئًا قط أحسن طلبًا، ولا أسرع
إدراكًا من حسنة حديثة لذنب قديم".
أخي المسلم: إن سوق العمل الصالح اليوم ميسورة.. فسارع لأخذ نصيبك منها قبل أن يحال بينك وبينها!
ولو نطق الأموات لأخبروك: أن خير زاد رحلت به من الدنيا، هو فعل الطاعات.. وتقديم الباقيات الصالحات..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر، فقال: «من صاحب هذا القبر؟»
فقالوا: فلان
فقال: «ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم».
فواحسرة من رحل من الدنيا بغير زاد من التقوى!
وواحسرة من أدركه الموت وهو خفيف الظهر من الحسنات!
فإن كنت أيها الإنسان من العاقلين، تزودت ليوم الرحيل.. وأعددت العدة ليوم السكرات!
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "درهم ينفقه أحدكم في صحته وشحه، أفضل من مائة يوصي بها عند الموت!".
وقال الحسن البصري رحمه الله:
"المبادرة المبادرة! فإنما هي الأنفاس، لو حبست انقطعت عنكم الأعمال التي
تتقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرءًا نظر إلى نفسه وبكى على عدد
ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم: 84]
وقال المنذر:
"سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر! ويحك
بادري قبل أن يأتيك الأمر! حتى كرر ذلك ستين مرة! أسمعه ولا يراني".
أخي المسلم: قد أفلح عبد حاسب نفسه اليوم قبل أن يحاسب.. وألزمها المحجة قبل الندامة..
فلنستعد ليوم الرحيل.. ولتستكثر من زاد الآخرة..وإياك والغفلة والتسويف، فيهما أهلك إبليس الخلائق.. وأوردهم النيرانَ!
فهما الداء العضال.. والسهم القتال!
فإن حال الأكثرين لا يتجاوز هذا الداء الخطير: الغفلة!
فهي التي صدتهم عن تذكر الممات.. وشغلتهم عن الاستعداد لساعة السكرات!
حتى سقاهم الموت من كأسه فندموا حين لا ينفع الندم!
قال بعض الحكماء: "عجبت ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة!"
وقال الربيع بن برة رحمه الله:
"عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمر حق تراه عيونهم، وتشهد عليه معاقد قلوبهم،
إيمانًا وتصديقًا بما جاء به المرسلون، ثم ها هم في غفلة عنه سكارى
يلعبون؟!".
وقال بعض الحكماء: "إذا كنت صبيًا تلعب مع الصبيان، وإذا كنت شابًا غفلت باللهو، وإذا كنت شيخًا صرت ضعيفًا، فمتى تعمل لله تعالى؟!".
فتذكر يا ابن آدم يوم أن تبلغ الروح الحلقوم! فيحبس اللسان.. وتنقطع الحركة.. ويشخص البصر!
ماذا أعددت لتلك اللحظات؟!
أشغتلك الدنيا عن جنة عرضها السماوات والأرض؟!
فلا تسكرنك الدنيا بلذاتها الكاذبة!
ولا تخدعنك بأمانيها الزائفة!
فإن أمامك دار النعيم الباقي.. والسعادة الحقيقية..
أغفلت عن دار البقاء نعيمها
وطلبت في داء الفناء نعيما
منع الجديدان البقاء وأبليا
أُممًا خلون من القرون قديما
أخي المسلم: عليك بزاد الآخرة.. واحرص على اقتنائه كما تحرص على زاد الدنيا..
فإن زاد الآخرة هو الزاد الباقي، وصاحبه هو الغني حقا، ولتستعد لحفرة لا ينير ظلمتها إلا صالح الأعمال!
فإن اللقاء قريب، والحساب طويل! ويومها سيعرف الفائز من الخاسر، فتزود قبل أن تكون من النادمين!
وبادر بالصالحات قبل أن تصبح من الخاسرين!
والحمدلله تعالى، والصلاة والسلام على النبي محمد وصحبه أجمعين..
اللهم انا نسالك الجنة و ما قرب اليها من قول و عمل و نعوذ بك من النار و ما قرب اليها من قول و عمل..