إذا لم تكن في سلام مع نفسك لا
يمكن لك أن تساهم في حركة السلام.
تيك نات هَنْه
تفوَّه بهذه العبارة ذات يوم الشاعر والناشط اللاعنفي ومعلم الزنْ الڤيتنامي الذي رشحه مارتن لوثر كينگ لنيل جائزة نوبل للسلام[1]؛ وهي، برأينا، تنطوي على أهم ما ينبغي لـ"حركة السلام" أن تتسم به، لكن تجاهُل مضمونها، مع ذلك، من أسهل ما يكون. إنها تعني، في جملة ما تعني، أن نوعية الوعي الفردي تعيِّن نوعية الوعي الجمعي وتُشرطها. لكن هذا الإدراك، على ما يبدو، يجب أن يتكامل تمام التكامل مع عكسه أيضًا، أي إدراك أن طبيعة الوعي الجمعي تعيِّن هي الأخرى طبيعة الوعي الفردي وتُشرطها. فهذان – الوعي الفردي والوعي الجمعي – سمتان من سمات كلٍّ أعظم يعمل على نحو غير مجزأ: "أنت العالم"، يقول ج. كريشنامورتي.
بيد أن ما يدخل نظريًّا في باب المفارقة المنطقية يتحول عمليًّا إلى صراع دموي! إن رؤية هذه السيرورة الديناميِّة dynamic كشيء سكوني static، ورؤية الأفراد المشاركين فيها كأشخاص مفصولين، بعضهم عن بعض وعن المنظومة الأكبر برمتها على حدٍّ سواء، هي من أسباب الصراع في الأساس. إذ إن مشكلات لا تقبل الحل – من نحو الحرية والمسؤولية والمطالبة بالحق والمساواة والسلام والعدالة – سرعان ما تطفو على السطح وتبدو غير قابلة للحل، لا لشيء إلا لأنها لا تُرى إلا من منظور واحد متعنت ومتجذِّر في وعي جمعي منغلق على نفسه. غير أن رؤية الوضع من منظور مختلف من شأنها أن تذيب خاصيته الثنوية dualistic، فتستبدل بها بصيرة جديدة قوامها التكامل والوحدة: ما كان يبدو منفصلاً وضديًّا يتكشف عن كونه سيرورة كلِّية مترابطة العناصر، تذوب فيها الأضداد لتصير مكمِّلات بعضها لبعض.
إن السيرورة التي يتحقق من خلالها هذا المنظور المختلف وثيقة الصلة بالمبادئ الأساسية للطرق التأملية العديدة التي رسخها أفراد ينتمون إلى الثقافات التي شهدها العالم كافة. لا تخلو ثقافة إنسانية من التأمل meditation لأنه، كما يتبدى لنا، نسق وجودي أصلي مركوز في الكائن الإنساني. ومع أن بعض الثقافات أوْلَته من التقدير والمنزلة ما لم تُوْلِه ثقافات أخرى، تبقى مبادئه الأساسية وتجلياته عالمية شاملة. التأمل، على حدِّ تعريفنا به، تبصُّر بالترابط، بالوحدة المتناغمة مع نظام أكثر إحاطة وشمولية. وهذه وحدة ليس من شأنها أن تمحو التنوع (كما تفعل الثقافة التي تحاول أن تسود العالم اليوم)، بل هي التنوع بذاته تتخلَّله الوحدة: "الوحدة-في-التنوع" l’unité-dans-la-diversité (تلار دُه شاردان). ومنه، لا يوجد مقترَب تأملي بعينه يلغي سواه، بل لانهاية من المقترَبات التأملية التي تصبُّ في الخبرة ذاتها؛ إذ إن التأمل الحقيقي لا يتكئ على الأشكال أو النشاطات الخارجية بتاتًا، بل يرجع بالحري إلى الخصائص الداخلية للبصيرة الروحية، وهي عينها لدى البشر أجمعين، وإن تكن تتصف بـ"مذاق" فريد فرادة الثقافات والأفراد.
من هذه "البصيرة" insight ينبثق المنظور "المختلف" المشار إليه آنفًا، وهو منظور بصير بكمال الكلِّية ويختبره اختبارًا حيًّا. كل "أنية" ego، بوصفها كيانًا منفصلاً، تُرى من هذا المنظور كتعبير فريد عن منظومة أكبر وكجزء منها. من هذا المنظور، أيضًا، تُرى الموجودات جميعًا متساوية من حيث الماهية والقيمة: كمال الكل يتطلب وجود أعضائه كلِّها، كما هي، متحولة أبدًا؛ وهذا الكل، إلى ذلك، ليس شيئًا سكونيًّا خاملاً، بل هو سيرورة عديدة الأبعاد. ومن هذا المنظور "الجديد"، أيضًا وأيضًا، تصير الأضداد أوجُهًا متكاملة، تنفح، معًا، شكلاً وطاقة ديناميين للوجود الكلِّي الأعظم؛ وما كان يبدو من قبلُ مظاهر منفصلة، وبالتالي نزاعية، يُرى من بعدُ كأوجُه وثيقة التواصل، متواكلة ومتكافلة، لسيرورة واحدة لا يُستثنى منها شيء.
* * *
لعل كتاب التحولات (يي-كنگ Yi-king أو I-ching) الصيني أن يزودنا، بهذا الصدد، باستبار ثاقب للمبادئ المبطِّنة لهذه النقلة في الإدراك ولأهميتها من أجل القضايا العملية التي تواجه حركة السلام – عالميًّا ومحليًّا على حدٍّ سواء. إذ لقد كان للـيي كنگ، بطبيعة الحال، تأثير عميق على الثقافة الصينية، وقد امتد هذا التأثير ليشمل شمولاً أقل مباشرة ثقافات أخرى عديدة[2].
تقوم النظرة إلى العالم التي يعبِّر عنها ويَبْسطها الـيي-كنگ على تبصُّر عميق بالطبيعة المتحولة أبدًا للظواهر: ما من شيء سكوني في الوجود؛ فالكيانات الفردية في الظاهر تنبثق جميعًا من سيرورة دينامية تفاعلية أشبه بالشبكة وترجع إليها. ومنه، فإن الاعتقاد بوجود فرديات "واجبة الوجود بذاتها" اعتقاد باطل واهم، وهو ناجم عن الفصل التعسفي الزائف للـ"ذات" عن الـ"عالم". المظاهر كلها، بما فيها الذات والعالم، تصدر عن قوتين طبيعيتين أساسيتين، متحولتين أبدًا، متقلبتين ومتضافرتين: الـينگ yang والـين yin. الينگ والين ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، بل هما وجهان لكلٍّ أعظم (طاو Tao) يتجلى ويفعل عبر تفاعلهما المتناغم. الينگ هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف، السماوي التوجُّه؛ والين هو المبدأ المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب، الأرضي التوجُّه. وعبر تمازجهما المتآلف، بوصفهما قوتين متساويتين ومتكاملتين، يتجلى العالم ويقوم ويتوارى تباعًا.
هناك أيضًا، على ما يبدو، تقاطُب polarity مقايس في صميم الكائنات الإنسانية. وإن أحد التجليات العديدة لهذا التقاطُب في بنية الإنسان الفسيولوجية هو ما بيَّنه البحث في الدماغ، في الربع الأخير من القرن العشرين، من اختلافات وظيفية أساسية بين كلٍّ من نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن. يجب ألا يغيب عن بالنا أن الدماغ كلٌّ عضوي متماسك، وأن في كل محاولة لتحليله من حيث أجزاؤه إسرافًا في التبسيط بالضرورة. ومع ذلك، فإن المقارنة التالية قد تكون دقيقة التمثيل لكيفيتَي عمل كلٍّ من نصفَي الكرة المخية المتكاملتين في خطوطهما العريضة: عمل نصف الكرة الأيسر يشدد على التحليل والموضوعية والمنطق والمحاجَجة والعَمْد، بينما يشدد النصف الأيمن، بالمقابل، على الحدس والذاتية والمشاعر والخبرات والعفوية؛ النصف الأيسر ييسر العمل المنطقي، الرياضي، العلمي، الخطِّي linear، "المذكر"، الزمني، التفسيري، والنصف الأيمن يتيح العمل الخيالي، الإيقاعي، الفني، اللاخطِّي non-linear، "المؤنث"، المكاني، التأويلي؛ النصف الأيسر يختص بوضع المقولات، بالفصل، بالنظام التراتبي (الهرمي)، وهو بنيوي التوجُّه، نفعي، بينما النصف الأيمن يختص أكثر باختراق المقولات، بالوصل، بالتكامل، بالحركة، بالتحول، وهو سيروري التوجُّه، مجاني.
يتمتع الناس بكلتا المقدرتين، لكن الثقافة السائدة اليوم، على ما يبدو، تنزع إلى إنزال ميزات المخ الأيسر منزلة أرفع من مكمِّلاتها التي يختص بها المخ الأيمن. ولعل هذا عائد، نوعًا ما، إلى التمييز المطلق بين العقل والجسم الذي قال به ديكارت وأشياعه من العقلانيين والذي يشير فيه مصطلح "العقل" raison إلى خاصيتَي المخ الأيسر الرئيستين: الصواب والعَمْد. ولقد انساقت التربية الحديثة إلى التشديد على تنمية نصف الكرة الأيسر وعززتها، ما أنتج رجحانًا خطيرًا لكفة ميزان الخصائص العلمية و"المذكرة" والانفصالية على كفة الخصائص الفنية و"المؤنثة" والاتصالية، سواء في الأفراد أو في الثقافة ككل.
إن ما نحن بأمس الحاجة إليه الآن، على ما يبدو، هو تنمية واعية للملَكات الحدسية والاستقبالية والتكاملية التي قُمِعَت أو، في أحسن الأحوال، تُركَت للضمور. هذا هو "تحرير المرأة" بالمعنى العميق للكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو النمط الجسماني والاجتماعي gender، بما هو سماح بتفتح الخصائص المؤنثة النبيلة عند البشر كافة. لكن حصول هذا يتطلب نقلة هائلة في القيم؛ إذ إن المخ الأيسر التحليلي، المنطقي، "النهاري" لم يقوِّم نصفه الآخر – بقيمه وخصائصه الصوفية، "الليلية" – حق قيمته. فسيطرته لم تشمل محاولة السيادة على النشاط الذهني الداخلي وحسب، بل طالت أيضًا التجليات الخارجية لخصائص نصف الكرة الأيمن وقيمه، بمن فيها النساء وأبناء الثقافات غير الصناعية والطبقات الأقل انتفاعًا من مزايا الثقافات الصناعية والفنانين والمتصوفة والحيوانات غير البشرية والمنظومة الإيكولوجية برمتها، في بريتها وتنوعها المذهلين. ومن عجائب التقدير أنه كلما ازداد هؤلاء معاناة من السيطرة والقمع والعدوان والاستغلال على يد الخاضعين لسيطرة مخهم الأيسر، ارتفعت قيمتهم كمعلمين وقدوات – وهذا لأنهم يمثلون في الواقع الإمكانية الوحيدة لإعادة التوازن إلى نصابه. إن "سادة الدماغ الأيسر"، إذا جازت التسمية، إذ يدمرون مكمِّليهم باعتبارهم "الآخر"، يدمرون أنفسهم من حيث لا يدرون.
* * *
التأمل، كما عرَّفنا به أعلاه، هو كيفية الوجود الأساسية لنصف الكرة الأيمن، من حيث كونه لامنطقيًّا، حدسيًّا، تكامليًّا، لاثنويًّا non-dual في الأساس. إن ذهنًا لا يستطيع أن يعمل بالفعالية نفسها بالكيفيتين التحليلية والتأملية لهو ذهن منقسم، محترب مع نفسه، سائر حتمًا نحو الجنون. فمن موقف السيطرة والتحكم الأساسي الذي تتبناه كيفية عمل نصف الكرة الأيسر، ومن اختلال التوازن الداخلي الذي يستتبعه ذلك، تنخلع النزاعات والحروب الخارجية العديدة وتُستهلك ممكناتُها البشعة حتى النفاد.
إن الإدراك التحليلي الذي يتصدر ثقافة العولمة السائدة اليوم ملَكة ذهنية بائسة المحدودية، وهي، إلى ذلك، لا تستطيع أن تدرك طبيعة حدودها. أما البصيرة التأملية، فهي مدركة لهذه الحدود إدراكًا عميقًا؛ لكنْ بما أن عملها غير منطقي أساسًا، فهي لا تستطيع أن تنقل معرفتها إلى الملَكة التحليلية للمخ الأيسر بلغة يستطيع هذا أن يفهمها؛ لذا تراها تفصح عن نفسها من خلال واسطات أخرى، من نحو الحلم والأسطورة والفن والشعر والموسيقى والرقص والوجدان الحدسي العميق. وربما كان في عجز المخ الأيسر عن الارتياح إلى كيفيات التعبير هذه تعليل لأزمة الثقة بينه وبينها ولنزوعه إما إلى مهاجمتها وإما إلى الاتِّجار بها لتعزيز إحساسه بالتفوق والسيطرة، من حيث هي أمثلة حية فاضحة على محدودية مقترَبه.
وحدها البصيرة الحدسية (المكبوتة اليوم) بوسعها أن تعالج هذا الوضع الشاذ، فرديًّا واجتماعيًّا على حدٍّ سواء. فهي، إلى جانب كونها مصدر كل فنٍّ حقيقي (بوصفه فعل كشف)، منبع المحبة والحكمة أيضًا. وهذه الخاصية عبَّر عنها بطرق مختلفة عديدة صوفيون مختلفون عديدون في لحظات إشراقهم التأملي.
بذا فإن المنظور المولود من البصيرة التأملية يقوم على استبار اختباري مباشر (لا يتكئ على وساطة النطق/المنطق) للترابط بين تجلِّيات الحياة-الأم كافة. ومن هذه البصيرة تولد الرحمة والتراحُم وحسٌّ بالتضامن يحيط بكل شيء. وعندما تندمج هذه البصيرة اندماجًا متوازنًا، تكامليًّا، في الإدراك العقلاني المنطقي (ما يسميه بعضهم "العقل الخطابي" discursive reason)، فإن أخلاقًا "سلامية" غنية عضويًّا تبدأ بالظهور عفويًّا. وإذ يبدأ الجانبان، ضمن الفرد الواحد، يعملان معًا عملاً متناغمًا عن طريق زيادة فعالية الجسم الثفني corpus callosum الواصل بين نصفَي الكرة المخية، فيما يمكن أن يُدعى "العلاقة الصحيحة" (التعبير لكريشنامورتي)، فإن الشرخ بينهما يلتحم، ومعه الشرخ بين الفرد والجماعة الأوسع، وبعبارة نفسانية يونگية، تتم مواجهة "الظل" shadow. وإذ يتم اعتناق الظل، يتكشف عن كونه جزءًا لا يتجزأ من النفس، لا بل هو النفس في مظهر آخر من مظاهرها[3].
وهكذا فإن الموجودات جميعًا، بما فيها الذات، تُرى تدريجيًّا كأعضاء مترابطة في سيرورة كلِّية، وليس كفرديات منفصلة؛ والمحبة والرحمة والفرح بفرح الآخرين تتصاعد عفويًّا كمشاعر متجذِّرة عميقًا في منظور متكامل لا يعود منحصرًا بالهموم الأنانية. خير الآخرين و"خيري" لا يعودان متضادين؛ فهما في الواقع لا ينفصلان. ومع نمو الأفراد، إذ يدركون أن خيرهم خير واحد لا يتجزأ ولا ينفصل عن خير المنظومة الأوسع، يبدؤون أيضًا بإدراك أن جماعتهم والجماعات الأخرى متصلة اتصالاً مماثلاً. الجماعات كلها متساوية من حيث مشروعيتها في الوجود، على أن يعي كلٌّ منها أن "الآخر" أيضًا، بالمقدار نفسه، مظهر مكمِّل له يساهم في بناء الكل الأكبر. بعض الجماعات، على ما يبدو، "ظلٌّ" بعضها لبعضها الآخر – ومن هنا عداؤها لها. فإذا تجرأ كل منها على اعتناق الآخر وتقبُّله، انطلق مقدار هائل من الطاقة النفسية، الفردية والجماعية، من أجل لحم الشروخ وحل النزاعات على مستويات الفرد والجماعة والمنظومة الأكبر، حسبما يقتضيه العدل وسائر القيم الإنسانية الشاملة.
ضمن هذه السيرورة، تصبح الأخلاق أجلى وأكثر عفوية، إذا صح التعبير. فالسلوك الأخلاقي إذ ذاك هو ببساطة السلوك الطبيعي السوي لدى فرد أو جماعة نمَّتْ لديها البصيرة التأملية تنمية تامة. عندئذ تكون دوافع نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن كليهما على علاقة يُغْني فيها كلٌّ منهما الآخر ويتكامل معه، بحيث يصبح كلٌّ من السلام في الداخل والسلام في الخارج انعكاسًا للآخر.
ومنه، فإن تربية تولي تنمية الملكات الحدسية اهتمامًا ناضجًا تربية مصيرية الأهمية من أجل تحقيق الالتحام الداخلي والرحمة والسلوك الأخلاقي و… السلام العالمي، وهي أيضًا مصيرية من أجل تنمية الحكمة. إن تعريف الإپستمولوجي گريگوري بَتِسون بالعقل (المختلف جدًّا عن تعريف ديكارت!) يضيء علة الأمر: فهو يعرِّف بالعقل كنموذج تعضِّي (= تنظيم) organization لا غنى عنه للمنظومات الحية كلها. وبذلك لا يقتصر وجود العقل على أشكال معينة "راقية" من أشكال الحياة، بل يتخلل أيضًا المنظومات الإيكولوجية والكون بأسره، بوصفه "نموذجًا رابطًا" a pattern which connects (التعبير لبَتِسون) يلحم ما بين الأشياء وينظِّمها.
ويبدو أنه بمقدار ما تربي الثقافة الناس على الاختصاص وعلى تضييق حقل تقصيهم ومهارتهم، يفقد هؤلاء قدرتهم على جعل حياتهم وخبرتهم متصلتين بالنماذج الأوسع التي ترسو فيها. إن طبيعة التفكير والاستعراف cognition الإنسانيين قائمة على ملَكة الربط ما بين الأفكار في سياق، وبالتالي، إيجاد القيمة والمعنى، في مقابل كومپيوتر لا يوجِد المعنى من خلال الارتباط، بل يعالج المعلومات وحسب. وهذه القدرة على الجمع بين المتآلفات من الخصائص الأساسية للفطنة intelligence في أي منظومة مترابطة. وعندما يفقد الناس هذه الملَكة من جراء الاختصاص الأكاديمي الحصري والتفتت الاجتماعي المعمَّم، فإنهم في الواقع يقزِّمون ذهنهم ويضيِّقون مجال فطنتهم ويصيرون أغبى[4]. فمن دون سيرورة البصيرة الحدسية التي يختص بها نصف الكرة المخية الأيمن والتي تحوك الروابط، تصير الفطنة الإنسانية مجرد ذكاء صنعي AI.
ينجم الغباء الأخلاقي عن ذلك حتمًا. فالحكمة ترخم في ملَكة حياكة الروابط على عدة أبعاد؛ وهي الوجه المكمِّل للرحمة التي لا توضع موضع التطبيق إلا بالتراحم الذي هو فن إيجاد الصلات وصونها بامتياز. ومثلما تسير الحكمة والتراحم والسلام يدًا بيد، كذلك يسير الغباء والأنانية والاستغلال والعدوان. ففي جهلهم الأعمى بالترابط الأساسي للحياة، يلتمس الأفراد والجماعات تلبية مصالحهم بطُرُق منحصرة في ذواتهم أو في الفئة الضيقة التي ينتمون إليها، فيسعون فيها ضاربين بخير الآخرين والكل الأكبر عرض الحائط. وهذا المسعى، أخلاقيًّا، مسعى شرير، لكنه يتفرع أساسًا عن جهل مطبق بالطبيعة الحقيقية للاتصالية الإنسانية والكونية.
* * *
لا يمكن لمفهوم أخلاقي للسلام أن يكون عادلاً وشاملاً، على ما يبدو، ما لم يلتحم الشرخ بين العقل والحدس. فبتنمية البصيرة التأملية بأن الموجودات ومجتمعات الموجودات كلها مترابطة، ربما أمكن حل الغباء الذهني والاجتماعي والإيكولوجي والأخلاقي، الذي يبدو أنه بات سمة عصرنا السائدة، في منظور أشمل[5].
إن الإمكانات المتضمنة في هذا المنظور الأكثر توازنًا موجودة في الواقع فعلاً، وهي واعدة بتوطيد رؤية مقوِّية وتبصُّرات طازجة في سيرورة تحقيقها. وبالنظر إلى الأهمية العاجلة للمشكلات الجارية وإلى هول المعاناة الناجمة عنها، فإن الجهود الرامية إلى صياغة مفهوم أخلاق سلامية من منظور أكثر تكاملاً وأكثر انسجامًا مع الطبيعة الإنسانية تستحق منا جميعًا المزيد من التقصي والمزيد من نذر النفس.