النص التالي – وهو مأخوذ من كتاب پ.د. أوسپينسكي نتف من تعليم مستور[1] – مدخل أولي إلى مقاربة گ.إ. گورجييف للعمل على الذات، وفاتحة لسلسة نصوص لاحقة، له وعنه، نعتزم من خلالها التعريف بتعاليمه.
* * *
[...]
حتى نفهم ماهية الفرق بين أحوال الوعي، لا بدَّ لنا من إنعام النظر في الحال الأولى، وهي حال النوم. هذه حال وعي ذاتية تمامًا. فالمرء فيها مستغرق في أحلامه – ولا يهم إنْ كان يتذكرها أم لا. وحتى إذا وصل إلى النائم بعض الانطباعات الواقعية، من نحو الضجيج والأصوات والحرارة والبرودة وإحساسات جسمه، فهي لا تستثير فيه غير صور ذاتية خيالية ليس إلا. ثم يستيقظ المرء. للوهلة الأولى، تبدو هذه حال وعي جديدة ومختلفة بالكامل. إنه يستطيع أن يتحرك، أن يكلم غيره من الناس، يستطيع أن يرسم خططًا للمستقبل، يستطيع أن يبصر الخطر ويتجنبه، إلى آخر ما هنالك. لذا يبدو من المعقول أنه الآن في موقع أفضل منه حين كان نائمًا. لكننا، إذا توغلنا في الأمور أعمق قليلاً، إذا ألقينا نظرة على عالمه الباطن، على خواطره، على مسببات أفعاله، لرأينا أنه يكاد أن يكون في الحال نفسها التي كان عليها وهو نائم. لا بل إنها أسوأ، لأنه في المنام يكون منفعلاً، ما يعني أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا؛ أما في حال اليقظة، على العكس، فيستطيع أن يفعل طوال الوقت، ونتائج أفعاله تنعكس عليه وعلى المحيطين به. لكنه، مع ذلك، لا يتذكر ذاته. إنه آلة: كل شيء يطرأ عليه. إنه لا يستطيع أن يوقف دفق خواطره، لا يستطيع أن يسدِّد دفق خواطره، لا يستطيع أن يسيطر على مخيلته، على انفعالاته، على انتباهه. إنه يعيش في عالم ذاتي قوامه "أحب"، "لا أحب"، "أستحب"، "لا أستحب"، "أريد"، "لا أريد"، أي عالم مصنوع مما يظن أنه يستحب وما يظن أنه لا يستحب، ما يظن أنه يريد وما يظن أنه لا يريد. إنه لا يرى العالم الحقيقي. العالم الحقيقي محتجب عنه بجدار سميك من الخيال الجامح. إنه يعيش في يقظة نائمة. إنه نائم. وما يسميه "الوعي الرائق" هو في الواقع عبارة عن نوم ليس إلا – بل هو نوم أخطر بكثير من نومه في الفراش ليلاً.
فلننظر في حدث ما من أحداث حياة البشر. دونكم، مثلاً، الحرب. الحرب دائرة في هذه الآونة[2]. فماذا تعني الحرب؟ إنها تعني أن عدة ملايين من النائمين يصرون على تدمير عدة ملايين من نائمين سواهم. وهم، بطبيعة الحال، ما كانوا ليفعلوا هذا لو قُيِّض لهم أن يستفيقوا. فكل ما يحدث حاليًّا مردُّه إلى هذا النوم.
إن كلا حالَي الوعي – النوم وحال اليقظة –، بالتالي، ذاتيتان على حدٍّ سواء. لا يبدأ المرء في الاستفاقة حقًّا إلا حين يبدأ بـتذكُّر ذاته. وعندئذ تكتسب الحياة المحيطة برمتها بنظره مظهرًا مختلفًا ومعنى مختلفًا. إنه يرى بأنها حياة أناس نائمين، حياة في المنام. كل ما يقوله البشر ويفعلونه، يقولونه ويفعلونه في المنام؛ ومنه لا يمكن لهذا كله أن يتصف بأدنى قيمة. وحدها الاستفاقة – وما يقود إليها – ذات قيمة حقيقية.
كم مرة سألتموني إنْ كان إيقاف الحروب ممكنًا؟ قطعًا هو ممكن. ولإيقافها لا حاجة إلا إلى استيقاظ الناس. يبدو هذا أمرًا تافهًا؛ غير أنه ما من شيء أصعب نوالاً، لأن هذا النوم تحرضه تربيتنا المزعومة، ويحرص على استمراره المجتمع المحيط برمته وشروط المحيط كلها.
فكيف للمرء أن يستفيق؟ كيف يمكن له أن يفلت من هذا النوم؟
هذه المسائل هي المسائل الأهم، الأكثر حيوية، التي يمكن للمرء أن يواجهها في حياته. ولكنْ قبل مواجهتها، لا مناص له من الاقتناع بواقع نومه بالذات. وليس من الممكن له أن يقتنع به إلا عبر محاولته أن يستفيق. فحين يفهم المرء أنه لا يتذكر ذاته، وأن تذكُّر ذاته يعني الاستفاقة، إلى حدٍّ ما، وحين يرى في الوقت نفسه، بالخبرة، مبلغ صعوبة تذكُّر ذاته، سيفهم عند ذاك أنه لا يستطيع أن يستفيق بمجرد أن يرغب في الاستفاقة. بدقة أكبر، يمكن القول بأن المرء لا يقدر أن يستفيق بمفرده – إلا في حالات استثنائية الندرة؛ ونحن هنا لا نتكلم على تلك الحالات. ولكن إذا تعاهد، لنَقُلْ، عشرون شخصًا على أن أي واحد منهم يستيقظ أولاً سوف يوقظ الباقين، فلديهم حينذاك بعض الأمل. غير أنه حتى هذا ليس بكاف، لأن هؤلاء العشرين جميعًا يمكن لهم أن يغطوا في النوم في الوقت نفسه ويحلموا بأنهم يستيقظون. ومنه، ليس هذا بكاف، ولا بدَّ من المزيد. يجب أن يتعهد هؤلاء العشرين بالمراقبة امرؤ لم يعد نائمًا، أو لا يغفو بمثل السهولة التي يغفو بها الآخرون، أو يخلد إلى النوم واعيًا عندما يتاح له ذلك، حين لا ينجم عن نومه أي ضرر على نفسه ولا على الآخرين. على العشرين أن يجدوا مثل هذا الشخص ويستعينوا به على إيقاظهم وعدم السماح لهم بالإغفاء من جديد. فمن دونه، تتعذر اليقظة. هذا ما ينبغي أن يُفهم حق فهمه.
من الممكن الاستمرار في التفكير ألف عام، من الممكن كتابة مكتبات كاملة من الكتب واختراع ملايين النظريات – لكن هذا كله يجري في أثناء النوم، من دون أي إمكانية للاستفاقة. فعلى العكس، هذه الكتب وتلك النظريات، المكتوبة والمخترَعة في أثناء النوم، يكون مفعولها أن تودي بأناس آخرين إلى النوم ليس إلا، وهكذا دواليك.
ليس هناك من جديد في فكرة النوم. فقد قيل للناس، منذ بُعيد خلق العالم، إنهم نيام وإنهم يجب أن يستفيقوا. كم مرة نقرأ، على سبيل المثال، في الأناجيل: "استفيقوا"، "اسهروا"، "لا تناموا". حتى تلاميذ المسيح كانوا نائمين بينما معلِّمهم يصلي في بستان جَتْسَمانِية للمرة الأخيرة[3]. هذا يفصح عن كل شيء. ولكن هل يفهم الناس ذلك؟ إنهم يأخذون الأمر في بساطة على سبيل المجاز، كشكل من أشكال التعبير، كاستعارة بيانية. لكنهم أعجز تمامًا من أن يفهموا أن الأمر يجب أن يؤخذ على محمل الحرف. وهاهنا أيضًا، من السهل أن يُفهم لماذا. فمن أجل أن يفهم المرء هذه الفكرة فهمًا حرفيًّا، لا مناص له من أن يستفيق قليلاً، أو على الأقل، أن يحاول أن يستفيق. لقد سُئلت مرارًا، بكل جدية، لماذا لم يَردْ شيء عن هذا النوع من النوم في الأناجيل… لكن الأمر وارد فيها، تكاد أن تنطق به كل صفحة من صفحاتها. وهذا يبيِّن في بساطة أن الناس يقرؤون الإنجيل وهم نيام. فمادام المرء غارقًا في نوم عميق، مستغرقًا في أحلامه تمامًا، لا يمكن أن يخطر بباله أنه نائم. فلو خطر بباله أنه نائم لاستفاق. وهكذا تستمر الأمور، من غير أن تكون لدى البشر أدنى فكرة عن كل ما يضيعون من جراء نومهم. كما سبق لي أن قلت، فإن الإنسان، كما هو عليه، كما خلقتْه الطبيعة، يمكن له أن يصير كائنًا واعيًا بذاته. فهو، وقد خُلق لهذه الغاية، يولد لهذه الغاية. لكنه يولد بين نيام، وبطبيعة الحال، يغرق بدوره في نوم عميق لحظة يتعين عليه أن يبدأ بوعي ذاته بالضبط. وهنا تلعب الأشياء كلها دورها: محاكاة الطفل اللاإرادية للراشدين، إيحاءاتهم الإرادية أو اللاإرادية و"تربيتهم" المزعومة. كل محاولة للاستفاقة من جانب الطفل سرعان ما تُحبَط إحباطًا قاتلاً. وما أكثر الجهود التي تُبذَل لاحقًا للاستفاقة؛ وما أكبر المساعدة التي يحتاج إليها المرء بعد أن تتراكم عنده آلاف العادات التي تدفع إلى النوم – وهذه قلما يتخلص منها. والإنسان، منذ طفولته حتى، يكون قد أضاع، في أغلب الحالات، إمكانية أن يستفيق؛ إنه يعيش عمره كله نائمًا ويموت نائمًا. فضلاً عن ذلك، فإن العديد من البشر يموتون قبل موتهم الجسماني بوقت طويل. لكن أوان الكلام على هذا لم يَحِنْ بعد.
[...]
ما هو الشيء الضروري، بصفة عامة، لإيقاظ امرئ نائم؟ الشيء الضروري هو صدمة قوية. ولكن حين يكون امرؤ غارقًا في النوم، لا تكفي صدمة واحدة لإيقاظه؛ إذ لا بدَّ من فترة طويلة من الصدمات المتتالية. ومنه، لا مناص من وجود أحد لإيقاع هذه الصدمات. لقد سبق لي أن قلت إن امرأ ما، إذا شاء أن يستيقظ، يجب أن يستعين بأحد يتولى هزَّه مدة طويلة. ولكن بمَن يقدر أن يستعين إذا كان الجميع نيامًا؟ سيستعين بأحدهم ليوقظه، لكن هذا سيغفو هو الآخر. فما النفع من امرئ كهذا؟ أما المرء القادر فعلاً على البقاء يقظًا، فأغلب الظن أنه سيرغب عن إضاعة وقته في إيقاظ الآخرين؛ إذ إن عنده عمل شخصي يقوم به هو بنظره أهم بكثير.
هناك أيضًا إمكانية الاستيقاظ بوسائل ميكانيكية. فالمرء يمكن له أن يستيقظ على صوت ساعة منبهة. لكن المصيبة هي أن المرء سرعان ما يتعود صوت أي ساعة منبهة، فيكف عن سماعه بكل بساطة. لذا فإن العديد من الساعات المنبهة، ذات الرنين المتنوع، ضروري إذن. وإلا فإن على المرء أن يحوط نفسه حرفيًّا بساعات منبهة تحُول بينه وبين النوم. ولكنْ، هاهنا أيضًا، تبرز صعوبات معينة: لا بدَّ من تعبئة الساعات المنبهة على الدوام؛ وحتى يعبئها المرء، لا مناص له من أن يتذكر أمرها؛ وحتى يتذكر أمرها يجب عليه أن يستيقظ مرارًا. لكن أسوأ ما في الأمر هو أن المرء يتعود هذه الساعات المنبهة كلها، وبعد فترة معينة من الوقت، يتحسن نومه بوجودها. ومنه، لا بدَّ من تبديل الساعات المنبهة تبديلاً مستمرًّا؛ لا بدَّ من اختراع ساعات منبهة جديدة دومًا. وفي مآل الأمر، قد يساعد ذلك المرءَ على الاستيقاظ. لكن حظ المرء في القيام بمفرده وحسب، بلا عون خارجي، بعمل تعبئة الساعات كله، وباختراع ساعات جديدة وتبديلها، ضئيل جدًّا. فالأرجح كثيرًا أنه ما إن يبدأ عمله حتى ينزلق لاحقًا في النوم من حيث لا ينتبه، وفي أثناء نومه يحلم بأنه يخترع ساعات منبهة، يعبئها ويبدلها، ثم في بساطة، كما سبق لي أن قلت، يستغرق استغراقًا أعمق في النوم من جراء ذلك.
لذلك، حتى يستيقظ المرء، لا بدَّ من بذل جملة من الجهود المتضافرة. لا بدَّ من وجود أحد لكي يوقظ النائم؛ ولا بدَّ من وجود أحد يراقب الموقظ؛ ولا بدَّ من التزود بساعات منبهة، كما لا بدَّ أيضًا من اختراع ساعات منبهة جديدة على الدوام.
لكنْ من أجل إنجاز هذه العملية كلها والحصول على نتائج، يجب على عدد معين من الناس أن يعملوا متكاتفين.
امرؤ واحد بمفرده لا يقدر أن يفعل شيئًا.
قبل أي شيء آخر، يحتاج ذلك المرء إلى معونة. لكن امرأ وحده لا يجوز له أن يتكل على العون. فالقادرون على المعونة شديدو الحرص على وقتهم؛ وهم، بطبيعة الحال، يفضلون أن يساعدوا، لنَقُلْ، عشرين أو ثلاثين شخصًا يريدون أن يستفيقوا بدلاً من مساعدة شخص واحد فقط. علاوة على ذلك، كما سبق لي أن قلت، يمكن لامرئ واحد أن يخدع نفسه بخصوص استيقاظه في سهولة، فتلتبس عليه اليقظة بمجرد حلم جديد. أما إذا قرر أفراد عدة أن يناضلوا سوية ضد النوم، فسيوقظون بعضهم بعضًا. وقد يحدث مرارًا أن ينام منهم حوالى العشرين، لكن الفرد الحادي والعشرين سيستيقظ، فيوقظ الآخرين. وهذا يصح على الساعات المنبهة: سيخترع أحدهم ساعة منبهة، ويخترع ثان ساعة منبهة أخرى؛ فيقدران، من بعدُ، أن يتبادلا ساعتيهما. وهكذا يستطيعون معًا أن يساعدوا جميعًا بعضهم بعضًا مساعدة جمة، ومن دون هذه المساعدة المتبادَلة لن يستطيع أيٌّ منهم أن يتوصل إلى شيء.
لذا فإن على امرئ يريد أن يستفيق أن يفتش عن أناس آخرين يريدون كذلك أن يستفيقوا لكي يعمل معهم. غير أن هذا أسهل قولاً منه فعلاً، لأن الشروع في مثل هذا العمل وتنظيمه يتطلب معرفة لا يمكن لامرئ عادي نائم أن يمتلكها. على العمل أن ينظَّم وأن يقوده قائد يقظ. عندئذ فقط يمكن له أن يثمر عن النتائج المرجوة منه؛ فمن دون هذه الشرطين، لا يمكن لأي جهود أن تثمر عن شيء على الإطلاق، فتذهب الجهود كلها سدى. قد يعذب القوم أنفسهم، لكن هذا التعذيب لن يجعلهم أيقاظًا – وهذا، على ما يبدو، أعسر الأمور فهمًا على بعض الناس. قد يكونون قادرين، بأنفسهم وبمبادرة منهم، على بذل جهود جبارة وتضحيات جسيمة؛ إنما لأن أول جهودهم وأولى تضحياتهم يجب أن تكون الطاعة، ما من شيء على وجه الأرض يمكن له أن يحملهم على طاعة سواهم. فهم لا يريدون أن يملي عليهم أحد ما يفعلون؛ وهم لا يريدون أن يوطِّنوا أنفسهم على فكرة أن جهودهم كلها وتضحياتهم كلها تصير بذلك عديمة الجدوى.
على العمل أن ينظَّم. ولا يقوى على تنظيمه غير امرئ يعرف مشكلاته ومقاصده، يعرف مناهجه؛ امرؤ سبق له، في أوانه، أن اجتاز مثل هذا العمل المنظم بنفسه.
[...]