المنهج
السليم لقضاء عطلة الصيف
يجيء فصل الصيف فتقفل مؤسسات التعليم ومدارس التكوين أبوابها، وتتوقف كثير
من المرافق، ويتناوب الموظفون على عُطلهم، ويتوقف الناس عن الدراسة وعن
العمل لعدة أسابيع.
وعندما تحُل عطلة الصيف وتشتد حرارته يتهيأ الناس لها، ويأخذون في
الاستعداد للتنعم والاستمتاع بها، والاستجمام فيها، كلٌُ على شاكلته
وطريقته وحسب رغبته وهواه، فيخصصون لذلك ميزانيات، ويخططون برامج ويحددون
أهدافاً، حتى أصبحت العطل حقاً من حقوق الإنسان يأخذ أجره عليها وتُحفظ
وتُصان ولا يُتساهل فيها، ولا يمكن تجاهلها ولا الاستغناء عنها أبداً،
وفَرضت نفسها وأصبحت ضمن البرامج السنوية العامة، وهذا أمر أجمع عليه عقلاء
العالم.
مُتعة منضبطَة إن حاجة الإنسان إلى الراحة بعد الجِدِّ والعمل والجهد، وإلى
الهدوء بعد الحركة لهُوَ من الأمور المسَلمة التي لا يُنكرها عاقل،
والإسلام بمنهجه الميسِّر المُراعي للطبائع البشرية لا يفرض على الناس أن
يكون كل كلامهم ذِكراً، ولا كل أوقاتهم عبادة، بل جعل للنفس حظها من الراحة
والمُتعة منضبطَة بالشرع، ولقد شكا الصحابي حنظلة بن عامر ] إلى رسول الله
[ تخلُّلَ بعض أوقاته بشيء من ملاعبة الأولاد والنساء والانشغال بالدنيا
فرخَّصَ له الرسول [ في اللهو والاستمتاع المباح قائلاً له "ولكن يا حنظلة
ساعة وساعة.. ثلاث مرات" (1).
وإن العقلاء الذين سنُّوا ووضعوا العطل الأسبوعية والفصْلِية والسنوية
نظروا إلى أثرها الإيجابي في تجديد نشاط الإنسان واستعادة الحيوية إلى
الذهن والبدن، ليتجدد عطاؤه؛ فيرجع إلى العمل بجد وعزم ونشاط، وهذا صحيح،
إلا أن الشيء إذا تجاوز حدَّه ولم يُمارَس في وضعه الصحيح انقلبت إيجابياته
إلى سلبيات، فالعطل والإجازات إذا طالت واتسع أمدها خلَّفت سلبيات كثيرة،
وأضراراً جمة، نتيجة الفراغ الذي لا يُستغل استغلالاً حسناً، وذلك حينما
تُهمل الواجبات، وتُضيَّع الحقوق.
استجمام وترويح
إن الإسلام يَعتبِر الوقت أغلى وأنفس ما في الوجود، بحُسن استغلاله يسعد
السعداء، وبسوء تدبيره يشقى الأشقياء، وعطلة الصيف هي وقت ثمين وفرصة مهمة
وزمن نفيس يستغله الناس للاستجمام والترويح عن النفس والتخفيف عن الجسد من
تعب الحياة ونكد المعاش ومشقة العمل طوال شهور العام.
وإن ديننا الحنيف بيَّن لنا أن المؤمن لا ينبغي له أن يجلس عاطلاً لا هو في
شغل الدنيا، ولا هو في شغل الآخرة؛ لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خُلق للعمل
والجِد والعطاء، قال الله عز وجل يؤكد ذلك لّقّدً خّلّقًنّا الإنسّانّ فٌي
كّبّدُ (4) (البلد)، وقال يّا أّيٍَهّا الإنسّانٍ إنَّكّ كّادٌحِ إلّى
رّبٌَكّ كّدًحْا فّمٍلاقٌيهٌ(6)(الانشقاق) وقال الرسول [ "أشد الناس عذاباً
يوم القيامة المكفيُّ الفارغ"(2)، أي الفارغ من أي عمل، العالة على الناس؛
لأن الإنسان سيُطلَب منه يوم القيامة كشف الحساب، وإظهار نتائج الأعمال
بمجرد الوقوف بين يدي الله تعالى، وسيُسأل عن عمره فيما قضاه، وسينبأ بعمله
وسيحاسب عليه، قال الله عز وجل ّقٍلٌ عًمّلٍوا فّسّيّرّى اللَّهٍ
عّمّلّكٍمً ّرّسٍولٍهٍ ّالًمٍؤًمٌنٍونّ ّسّتٍرّدٍَونّ إلّى عّالٌمٌ
الًغّيًبٌ ّالشَّهّادّةٌ فّيٍنّبٌَئٍكٍم بٌمّا كٍنتٍمً تّعًمّلٍونّ >105
(التوبة).
الاستفادة من الفراغ
إن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ وعطلة أبداً، ذلك أن
الوقت والعمر في حياة المسلم مِلك لله سبحانه، والإسلام يجعل الوقت أمانة
عند المسلم، يؤجر إن استغلَّه في فعل الخير، ويأثم إن فرَّط فيه، ولقد دعا
الرسول الكريم [ دعوة صريحة واضحة إلى أن نستفيد من أوقات فراغنا ونستغلها
استغلالاً حسناً فقال "اغتنم خمساً قبل خمس حياتك قبل موتك، وصحتك قبل
سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك"(3).
ففي هذا التوجيه النبوي الرشيد دعوة لجعل الفراغ موسماً للاستثمار
والمتاجرة مع الله عز وجل، إنه توجيه لملء ساعات الفراغ قبل أن تمضي بلا
رجعة، ولقد صدق رسول الله [ قولاً وفعلاً في اغتنام الوقت، حيث تقول عنه
زوجه عائشة رضي الله عنها "ولا رُئي قط فارغاً في بيته"، كيف لا وهو الذي
قال له ربه فّإذّا فّرّغًتّ فّانصّبً (7) ّإلّى رّبٌَكّ فّارًغّبً (8)
(الشرح).
وهو خطاب لكل مسلم من بعده كي لا يبقى فارغاً أبداً، فإذا فرغ من أعمال
الدنيا انتصب للعبادة ورَغِبَ فيما عند ربه من العطاء الذي لا ينفد، وإذا
فرغ من واجباته الدينية فلينشغل بعمل دنياه، وإذا انتهى من حاجة بدنه،
فليأخذ غِذاءً لقلبه ومتعة لروحه، وإذا أتمَّ شأن نفسه، فليقبل على شأن
أسرته، ثم على أمر مجتمعه وأمته.
وهكذا يدرك المسلم أنه لا فراغ في حياته أبداً، وبالتالي تصبح كل لحظة من
لحظاته عبادة وقربة إلى الله، حتى الترويح عن النفس والاستمتاع، قال رسول
الله [ "يقول ربكم عز وجل يا بن آدم، تفرغ لعبادتي أملأْ قلبك غنى، وأملأ
يدك رزقاً، يابن آدم لا تباعدْ مني أملأ قلبك فقراً وأملأ يدك شغلاً" (4).