التراث هو ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرة من الماضي ونهج يستقي من الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان.
ويتنوع التراث باختلاف ما تحمله الجذور إلى الشجرة. فقد تحمل إليها قُوتًها المُمَثل في الأملاح المعدنية وهو بمثابة ما دوّن من التراث فإن فقد فستصير الأمة كشجرة حبست عنها الأملاح المعدنية فستذبل حتما شيئا فشيئا ثم تضمحل.وقد تحمل الجذور الماء فتتناقله مكونات الشجرة ليشربوا منه واحدا تلو الآخر فيشرب كل سلف ويسلم الماء لخلفه شأن تواترته الأجيال أبا عن جد من تراث شفوي كالأمثال الشعبية والحكايات الهادفة وغيرهما. فمن رفض الماء وحبسه عن نفسه سيجف من محتواه القومي ثم ينقطع عن سياق حضارته فيسقط من على الشجرة إلى سطح الأرض حيث نقطة الصفر. في جانب آخر، نلاحظ جريان سلوكيات خاصة في عروق كل أمة. وهو تراث سلوكي يمثل بالهواء الذي يبث الحياة في الشجرة فهو ملتصق بها التصاق السلوك بالإنسانية كما أنها تتحرك بحركته حينما يدغدغها نسيمه العليل. أما ما خلفه الأجداد من آثار ظلت مصانة كالحصون والقصور والسيوف والدروع وغيرها مما شهد على أمجاد أمتنا العظيمة فهو بمثابة المواد العضوية التي تركتها الكائنات الأخرى في تربة بعد مذبلها أو مماتها لكي تنهل منها الشجرة إلى أن تصبح قادرة على تكوين مادتها العضوية بنفسها...
لا حضارة بدون تراث لأنها ستصير حضارة طفيلية ترتوي من تراث الآخر دون تراثها شأن الطفيليات التي تتقوت مما تنتجه الأشجار الأخرى فما إن تحبس عنها الأشجار قوتها حتى تندثر مهما بلغت طولا وعرضا. بل يجب أن تكون الحضارة أصيلة لا تبعية عندها، مستقلة تملك جذورها العميقة في جوف الأرض.