السلطات العامة في الإسلام
مفهومها.. وظيفتها.. العلافة بينها
د. عثمان جمعة ضميرية
تقوم الدولة عند علماء القانون الدستوري والقانون الدَّوْلي المعاصرين على أركانٍ هي: الإقليم أو الأرض، والأمَّة أو السكان، والنظام أو السيادة الداخلية والخارجية للدولة، ويعبَّر عنها بالسُّلطة العامَّة.
والمقصود بالسُّلطة العامة: الهيئة التي لها الحق في إصدار الأوامر الملزمة للرعايا، لصيانة حقوق الجماعة ومنع العدوان. وهي تتكون من هيئات فرعية ثلاث: السُّلطة التشريعية، والسُّلطة التنفيذية، والسُّلطة القضائية.
وليس هذا التقسيم للسلطات أمراً متَّفَقاً عليه، فإنَّ بعضهم يجعل السُّلطة القضائية تابعةً للسلطة التنفيذية وغيرَ مستقلةٍ عنها، وقد يضيف بعضهم سلطةً رابعة هي سلطة الرقابة والتقويم، كما يضيف آخرون سلطة خامسة هي السُّلطة المالية.
وسنبحث فيما يلي ـ باختصار ـ معنى السلطات الثلاث، حسب التقسيم المشهور الغالب، ونضيف إليها سلطة الرقابة والتقويم، ثم نعقِّب على ذلك بمبدأ الفصل بين هذه السلطات وتوزيعها، ومدى شرعية ذلك وتطبيقه في النظام الإسلامي.
■ أولاً: السُّلطة التشريعية:
للتشريع معنيان:
تطلق كلمة التشريع ويراد بها أحد معنيين: (أحدهما): إيجاد شرع مبتدأ، و (ثانيهما): بيان حكمٍ تقتضيه شريعة قائمة.
فالتشريع بالمعنى الأول في الإسلام، ليس إلا لله ـ تعالى ـ وحده، فهو ـ سبحانه ـ ابتدأ شرعاً بما أنزله في قرآنه العظيم، وما أقرَّ عليه رسوله الكريم، وما أقامه من دلائله. وبهذا المعنى: لا تشريع إلا لله تعالى، ولا حاكم إلا لله.
وأما التشريع بالمعنى الثاني ـ وهو بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ـ فهذا الذي تولاّه بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفاؤه من علماء الصحابة، ثم مَنْ بعدهم من علماء التابعين وتابعيهم من الأئمة المجتهدين. فهؤلاء لم يشرِّعوا أحكاماً مبتدَأةً جديدةً، وإنما استمدُّوا الأحكام من نصوص القرآن والسنة، وما نصَبَه الشارع أو أقامه من دلائل، وما قرَّره من القواعد العامة؛ فمن استنبط حكماً منهم بواسطة القياس مثلاً، فهو لم يشرِّع حكماً مبتدَأً، وإنما اجتهد في تعرُّف علَّة الحكم المنصوص عليه، وعدَّى الحكم من موضع النص إلى موضعٍ اشترك معه في الوصف الذي هو مناط الحكم وهو العلة. فهو ـ باجتهاده ـ: قد استبان له أنَّ النصَّ يشمل موضعين: الموضع الظاهر فيه، والموضع الذي يشترك معه في علة الحكم. وهو بذلك يقوم بعملية كشفٍ عن الحكم وبيانٍ، ولا ينشئ حكماً من تلقاء نفسه.
وكذلك الاجتهاد؛ يطلق ويراد به أحد معنيين:
(أحدهما): بذل الجهد في تعرُّف الحكم الشرعي من دليله أيّاً كان، فيشمل ما يفهمه المجتهد من النص، وما يستنبطه بالقياس، وما يستمدُّه من قواعد الشرع العامة؛ كسدِّ الذرائع، ودفع الحرج، والعمل بالمصالح المرسلة.
و (ثانيهما): تعرُّف حكم ما لم ينصَّ عليه بواسطة قياسه على المنصوص على حكمه، فهو ـ بهذا المعنى ـ يرادف القياس.
والأحكام الاجتهادية - بهذا المعنى- خاصة بالأحكام المستنبَطة بواسطة القياس. وهذا المعنى هو المراد في مثل قول معاذ بن جبل ـ رضي الله عنــه ـ: «إن لم أجـد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أجتهد رأيي»(1). أما المعنى الأول فهو عامٌّ، والأحكام الاجتهادية بمقتضاه تنتظم كل نتائج جهد المجتهدين في النصوص وفي غيرها من الأدلة الشرعية، وهو المراد عند الإطلاق.
المقصود بالتشريع في هذا البحث:
وبعد هذا البيان لمعنيي التشريع تجدر الإشارة إلى أنَّ المعنى الثاني هو الذي نريده هنا، وهو يسمى في عرفنا الحاضر تشريعاً، ولكنه عند الفقهاء المتقدمين لم يكن يسمى تشريعاً، وإنما هو تنفيذ للأحكام أو اجتهاد فيها واستنباط؛ لأنها تستند إلى تشريع منصوص. فهو في الاصطلاح الحديث يسمى تشريعاً، وفي الاصطلاح القديم لم يكن يسمى بذلك، وإنما يدخل في دائرة التنفيذ، كما لو منع الحاكم نوعاً من الأعمال أو التصرفات المباحة أو قيَّدها لمفسدة تنشأ عنها تطبيقاً لقاعدة شرعية، أو وضع ضوابط لتحديد الأجور للعاملين مثلاً، أو ضوابط وشروطاً لمن يتولون الوظائف العامة، ونحو ذلك من الأمــور التي تنتظــم بهــا أحــوال الناس مما لا يعـارض نصاً ولا حكماً ثابتاً ولا مقصداً من مقاصد الشرع. ولذلك ينبغي التنبُّه إلى تطور المصطلحات ومعاني الألفاظ والكلمات.
نطاق هذا التشريع ومداه:
وأما دائرة هذا التشريع ونطاقه، فإنه يتحدد بتفسيرِ النصوص التي تقرِّر الأحكامَ(2)، والقياسِ على ما فيه نص عليها، والاستنباطِ من الأصول والقواعد العامة ومقاصد الشريعة، كما يشمل أيضاً دائرةَ المباح أو العفو الذي سكتت عنه الشريعة؛ فليس فيه حكم صريح أو قياس مستنبَط. وهذا السكوت في حد ذاته دليل على أن الشرع أعطى الإنسان حقَّ إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم.
قيود السُّلطة التشريعية:
وهذا التشريع ـ أو الاجتهاد التشريعي ـ ليس مطلقاً، كما لاحظنا، ولكنه مقيد بثلاثة قيود:
(الأول) أن يكون في المجال الذي يصحُّ فيه مما يشمل النوعين السابقين اللَّذَيْن أشرنا إليهما وهما:
(أ) التشريعات التنفيذية التي يُقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة، وهي بمثابة اللوائح والقرارات التي يصدرها الوزراء اليوم، كلٌّ في حدود اختصاصه، لضمان تنفيذ القوانين الوضعية.
(ب) تشريعات تنظيمية، يُقصد بها تنظيم الجماعة وحمايتها وسدُّ حاجتها على أساس من مبادئ الشريعة العامة. وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة، فلم تأت فيه بنصوص خاصة.
(والقيد الثاني): أن يكون هذا التشريع متفقاً قبل كل شيء مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، وإلا كان باطلاً بطلاناً مطلقاً(3)؛ فليس لأحد أن ينفِّذه، وليس لأحد أن يطيعه.
(والقيـد الثالث): ألاَّ يصادم هـذا التشـريع ولا يناقض ـ مناقضة حقيقية ـ دليلاً من أدلة الشريعة التفصيلية الثابتة.
الهيئة التشريعية وأهل الاجتهاد:
والذي يتولَّى سلطة التشريع ـ بهذا المعنى السابق ـ بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين: هم المجتهدون وأهل الفُتْيا، الذين توافرت فيهم أهلية الاجتهاد والنظر في الأحكام(4)؛ وذلك لأنَّ الله ـ تعالى ـ أمَرَنا بطاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر منا؛ وأولو الأمر الديني هم العلماء والمجتهدون.
كما أن أهل الحل والعقد ـ وهم غير أهل الاجتهاد عند بعض العلماء أو هم دائرة أوسع ـ من أصحاب الاختصاص في الشؤون العامة كشؤون السلم والحرب والزراعة والتجارة والإدارة والسياسة وغيرهم، لهم دور في هذا النوع من التشريع؛ إذ يبني العلماء والمجتهدون أحكامهم الاجتهادية على رأي هؤلاء وما يقدِّمونه لهم. فلو أرادوا مثلاً أن يجتهدوا في بيان حكم معاملة من المعاملات المالية المعاصرة، فلا بد أن يكون بين أيديهم ما يبين نوع هذه المعاملة وطبيعتها وشروطها وما إلى ذلك، حتى يتسنى لهم استنباط الحكم الشرعي؛ وغنيٌّ عن البيان أن أهل الحل والعقد هؤلاء لا بد أن تتوافر فيهم صفات العدالة والعلم حتى يُقبل قولهم ورأيُهم. ونختم بأن أهل الاجتهاد ـ وبالمعنى والشروط السابقة لهم - لا يخرجون عن دائرة أهل الحل والعقد أيضاً؛ فهم من أهلها من باب أوْلى. والله أعلم(1).
■ ثانياً: السُّلطة التنفيذية:
تعريف السُّلطة التنفيذية ومفهومها:
هي السُّلطة المختصة بتنفيذ أحكام الشريعة، وتعمل على إقامة المرافق العامة وتنظيمها بما يكفل إشباع حاجات الناس في الدولة. ولا يختلف مدلول السُّلطة التنفيذية في الإسلام عنه في النظم المعاصرة؛ فهي تشمل جميع العاملين الذين يقومون بتنفيذ إرادة الدولة وقوانينها، ما عدا أعضاء الهيئة أو السُّلطة التشريعية والقضائية.
غير أن علماء القانون العام يفرِّقون بين من يقوم بالأعمال السياسية أو الحكومية، ومن يقوم بالأعمال الإدارية، وهم رجال الإدارة، فيدرسون نشاط الأعمال الحكومية ضمن دراسة النظم الدستورية، والنشاط الإداري ضمن دراسة القانون الإداري.
وفي ضوء هذا التقسيم ندرس في السُّلطة التنفيذية: الهيئةَ الحكوميةَ في الدولة الإسلامية. وهي تتكون في مستوياتها العليا من الإمام (الخليفة أو رئيس الدولة)، والوزراء، والولاة، الذين يساعدون الإمام أو ينوبون عنه في تسيير أمور الدولة وتنفيذ قوانينها.
اختصاصات السُّلطة التنفيذية:
والأصل أن يقوم الإمام ـ رئيس الدولة ـ على السُّلطة التنفيذية، ويختصَّ بها وحده؛ فمن واجبه القيام بكل الأعمال التنفيذية لإقامة الإسلام وإدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية في حدود الإسلام. ويدخل في هذا اختصاصاتٌ شتى: أهمها تعيين الموظفين وعزلهم وتوجيههم ومراقبة أعمالهم، وقيادة الجيش وإعلان الحرب، وعقد الصلح والهدنة، وإبرام المعاهدات، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وولاية الصلاة والحج، وحمل الناس على ما يُصلح أمورَهم، ويوجههم وجهة إسلامية صحيحة بما يسنّه من لوائح ويصدره من أوامر، والعفو عما يجوز العفو عنه من الجرائم والعقوبات. فالإمام هو رئيس الدولة ومصرّف أمورها والمسؤول الأول عن أعمالها، ومسؤوليته ليست محدودة، وإنما هي مسؤولية تامة؛ فهو الذي يضع سياسة الدولة ويشرف على تنفيذها، وهو الذي يهيمن على كل أمور الدولة ومصائرها(2).
القيود على سلطة الإمام التنفيذية:
وهذه السُّلطة التي يتمتع بها الإمام أو الخليفة ـ رئيس الدولة ـ ليست سلطة مطلقَةً مستبِدَّةً، بل هي سلطةٌ مقيَّدةٌ بثلاثة قيود من أصول الشريعة وقواعد النظام السياسي:
(الأول): التقيُّد بأحكام الشريعة، وعدم مصادمتها أو مخالفتها لحكم شرعيٍّ أو مقصد من مقاصدها، فلا يجوز الخروج على حكم من أحكام الشريعة، وإلا كان العمل أو التصرف باطلاً بطلاناً مطلقاً.
(الثاني): الشورى؛ فإن الإمام لا يستبدُّ بالأمور، بل هو يستشير أهل الشورى وأهل الحلِّ والعقد.
(الثالث): مراعاة المصلحة العامة للأمة؛ فإن القاعدة الشرعية التي تحكم تصرفات الإمام ـ وسائر أصحاب الولايات ـ هي قاعدة «تصرُّف الإمامِ على الرعيَّةِ مَنُوطٌ بالمصلحة»(3).
الوزارة والوزراء في الدولة الإسلامية:
ولما كان الخليفة ـ رئيس الدولة ـ لا يستطيع أن يقيم المصالح، ولا أن يقوم بالوظائف كلها بنفسه، وبخاصة عند اتساع رقعة الدولة وتعدد وظائفها: وجب أن يكون معه من يُعِينُه في وظيفته التنفيذية هذه؛ فهو يستعين بالوزراء في القيام على شؤون الدولة وتوجيه أمورها، ولكنهم مسؤولون أمامه عن أعمالهم، ومركزُهم منه مركزُ النوَّاب عنه، فهو يعيِّنُهم وهو يُقِيلُهُم. ولم يكن منصب الوزارة منصباً رسمياً في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ولا في عهد الدولة الأموية، وإنْ كان أصلُ مشروعيَّتِه ثابتاً في القرآن الكريم فيما حكاه الله ـ تعالى ـ عن موسى ـ عليه السلام ـ بقوله: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [طه: 29]. وكان موجوداً فعلياًً في عهد أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ثم أصبح منصباً رسمياً من وظائف الخلافة والملك منذ عهد الدولة العباسيَّة. وأصبح علماء الفقــه السياسي الإسلامي ـ كالماوَرْدِيِّ وأبي يَعْلَى الفرَّاء ـ وغيرهما، يبحثون في الوزارة ويجعلونها نوعين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، ولكلٍّ منهما شروط، وبينهما فوارق في العمل والاختصاص.
ففي (الأولى) منهما: يفوِّض الخليفةُ وزيراً في تدبير الأمور برأيه وإمضائها باجتهاده، وله سلطات الخليفة نفسه كقاعدة عامة إلا في بعض الأمور المستثناة من ذلك. ولعلَّ هذا المنصب يشبه اليوم رئيسَ الوزراء أو الوزيرَ الأول في بعض الأنظمة السياسية.
و (في الثانية) ـ وزارة التنفيذ ـ: يعيّن الخليفة من ينوب عنه في تنفيذ الأمور دون أن تكون له سلطةٌ مستقلَّة؛ فهو يباشر تنفيذ ما يرد إليه من أوامر يصدرها الخليفة أو وزير التفويض. ودراسة هذا الجانب من النظام السياسي تكفَّلت به كتب الأحكام السلطانية(1).
الإمارة والولاية على البلاد:
ويماثل الوزارةَ منصبٌ آخر من المناصب المتَّصلة بالخلافة والسُّلطة التنفيذية، وهو: الإمارة على البلاد، أو الولاية العامة عليها. ويختصُّ فيها الأمير أو الوالي ـ وكان يسمى عاملاً ـ بالنظر والعمل في إقليم معيَّن، ينوب فيه عن الإمام في نظر مصالح الأمة في تلك الجهة، وقد تكون ولايته على أقاليم الدولة كلها، وقد تكون ولاية خاصة في جانب معيَّن. وقد تناول الفقهاء السياسيون هذه الولايةَ بالبحثِ لمشروعيتها وتطوُّرِها وشروطِها واختصاصها، مما لا يدخل تفصيلُه في حدود بحثنا هذا(2).
■ ثالثاً: السُّلطة القضائية:
مفهومها ومهمتها:
ومهمة هذه السُّلطة هي إقامة العدالة بين الناس، والحكم في المنازعات والخصومات والجرائم والمظالم، واستيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مستحقها، والولاية على فاقدي الأهلية والسفهاء والمفلسين، والنظر في الأوقاف وأموالها وغلاَّتها، إلى غير ذلك مما يعرض على القضاء.
علاقتها بالسُّلطة التنفيذية:
والإسلام يوجب على القضاة أن لا يجعلوا لأحد عليهم سلطاناً في قضائهم، وأن لا يتأثروا بغير الحق والعدل، وأن يتجرَّدوا عن الهوى، وأن يسوُّوا بين الناس جميعاً: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135].
وتاريخ القضاء الإسلامي قاطع في أن القضاة كانوا دائماً مستقلِّين في عملهم، لا سلطان لأحدٍ عليهم إلا لله، ولا يخضعون في قضائهم إلا لما يقضي به الحق والعدل.
والإمام هو الذي يولِّي القضاةَ بصفته نائباً عن الأمة، وله الإشراف عليهم وعزلهم بهذه الصفة، ولا يعتبر القضاة بمجرد تعيينهم نواباً عن الإمام، وإنما يعتبرون نواباً عـن الأمـة، ولذلك لا يعزلون عن عملهم بموت الإمام أو عزله، كما أن الإمام لا يملك عزلهم لغير سبب يوجب العزل.
وعلى هذا الأساس: يُعتبر القضاةُ سلطةً مستقلّةً مصدرها الأمة، وإذا كان الإشراف على هذه السُّلطة للإمام فإنما يشرف عليها بصفته نائباً عن الأمة.
ويلاحظ أن التقاليد الإسلامية جرت من أول عهد الإسلام على أن يباشر رئيس الدولة القضاء؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي بين الناس وكذلك كان الخلفاء الراشدون، وكان المتفقهون من الخلفاء بعدهم يقضون، ثم انتهى الأمر إلى ترك القضاء للقضاة المختصين به.
القضاء وشرعية القوانين:
ويوجب الإسلام على القضاة أن يتصدَّوْا لشرعية القوانين والنصوص، وأن لا يحكموا إلا بما أنزل الله، وبما هو تطبيق لمبادئ الإسلام العامة، وذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49].
ويحرِّم الإسلام على المسلمين أن يحكموا بغير ما أنزل الله، ويعتبر من لم يحكم بما أنزل الله كافراً: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وهكذا نزلت نصوص القرآن بوجوب تصدي القضاة لشرعية القوانين التي يطلب إليهم تطبيقها؛ فإن كانت شرعيةً طبَّقوها وإلا أهملوها وطبَّقوا نصوص الشريعة، ولا تكون القوانين شرعيةً إلا إذا جاءت متفقة مع نصوص الشريعة أو تطبيقاً لمبادئها العامة وروحها التشريعية.
وبذلك سبق الإسلامُ القوانينَ الوضعيةَ بحوالي خمسة عشر قرناً في تقرير نظرية شرعية القوانين أو ما يسمى اليوم في عرفنا القانوني بنظرية «دستورية القوانين»(1).
والدراسة التفصيلية لنظام القضاء وعدالته في الإسلام، وتطور السُّلطة القضائية وما يتصل بذلك، تكفَّلت به كتب كثيرة متخصصة، علاوة على كتب الفقه في المذاهب الفقهية المشهورة، التي يعقد الفقهاء فيها دائماً باباً للقضاء وآداب القضاة(2).
■ رابعاً: سلطة المراقبة والتقويم:
طبيعة هذه السُّلطة:
وهذه سلطة الأمة جمعاء في مراقبة الحكام وتقويمهم. وينوب عن الأمة في القيام بها: أهل الشورى، والعلماء، والفقهاء وأهل الحلِّ والعقد.
مشروعيتها: وهذه السُّلطة مقررة للأمة من وجهين:
(أحدهما): أن الأمة يجب عليها مراقبة الحكام وتقويمهم بما أوجب الله عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
ولقد بيَّن لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفساد، وأوجب على كل قادر على تغيير المنكر أن يغيِّره ما استطاع لذلك سبيلاً، وجعل أدنى درجات التغيير عند العاجز أن يكره المنكر بقلبه، وأن يبغض فاعليه ويمقتهم عليه: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذاك أضعف الإيمان»(3).
و(ثانيهما): أن الأمة هي مصدر سلطان الحكَّام باعتبارهم نواباً عنها، وبما يلزم الله الحكام من الرجوع إلى الأمة واستشارتها في كل أمور الحكم والتزام ما يراه ممثلوها: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
وإذا كانت الأمة هي مصدر سلطان الحكام، وكان الحكَّام نوَّاباً عنها؛ فللأمة أن تراقبهم في كل أعمالهم، وأن تردَّهم إلى الصواب كلما أخطؤوا، وتقوِّمهم كلما اعوجُّوا.
من الواقع التاريخي الإسلامي:
وسلطة الأمة في مراقبة الحكام وتقويمهم ليست محلَّ جدلٍ؛ فالنصوصُ التي جاءت بها قاطعةٌ في دلالتها وصراحتها، وخلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا أول من عمل بها وطبقها، وما عطل هذه النصوصَ وأنكر سلطانَ الأمة إلا الذين فسقوا عن أمر الله، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ونصبوا من أنفسهم جبابرة على هذه الأمة يسلبونها حقوقها، وينكرون سلطانها، ويستعلُون عليها، وما فعلوا ذلك وما جرّأهم عليه إلا سكوت الأمة عن إقامة أمر ربها، وتهاونها في الدفاع عن حقوقها والتمسك بسلطانها.
في عهد الخلافة الراشدة:
لقد وُلِّيَ أبو بكرٍ الحكمَ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أول ما تفوَّه به هو اعترافه بسلطان الأمة عليه، وحقها في تقويم اعوجاجه. خطب أول خطبة له بعد المبايعة فقال فيها: «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني»(4).
ووُلِّي عمُر الحكمَ فكان يقول في خطبه: «من رأى فيّ اعوجاجاً فليقوِّمه» حتى قال له أعرابيٌّ: واللهِ لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا(5).
بل هذا ما كان عليه صلَحاءُ الأمة في العصور الأولى؛ فما كانوا يتأخرون في الدفاع عن حقوق الأمة وسلطانها كلما واتتهم الفرصة.
كان بين عمر بن الخطاب ورجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتَّقِ الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقولُ لأمير المؤمنين اتّقِ الله؟ فقال عمر: دَعْهُ فلْيَقُلها لي! نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلْها منكم(6).
وصعد عمر المنبر يوماً وعليه حلَّةٌ، والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. فقــال عمـر: ولِمَ يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حُلَّة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله! ثم نادى: يا عبد الله! فلم يجبه أحد. فقال: يا عبد الله بن عمر. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: نشدتُك اللهَ، الثوبُ الذي ائتزرتُ به أهو ثوبك؟ قال: اللهمَّ نَعَم! فقال سلمانُ: أمَّا الآنَ فقلْ نسمعْ(1).
وفي العصور التالية:
حبس معاويةُ العطاءَ عن الناس ذات مرة، شهرين أو ثلاثة، فقام إليه أبو مسلم الخَوْلاَنِيُّ، فقال له: يا معاوية! إنه ليس بمالك ولا مال أبيك ولا مال أمِّك. فغضب معاوية، ونزل عن المنبر، وقال للناس: مكانَكم! وغاب عنهم ساعة، ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلـم كلَّمني بكلام أغضبنــي، وإني سـمعت رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فليغتسل» وإني دخـلت فاغتسلت، وصدَقَ أبـو مسلم، إنه ليــس من مالـي ولا من مال أبي فهلمُّوا إلى عطائكم على بركة الله عز وجلَّ(2).
وأُدخل سفيان الثوري على أبي جعفرٍ المنصور، فقال له: ارفع إلينا حاجتك، فقال: اتق الله فقد ملأتَ الأرض ظلماً وجوراً. فطأطأ رأسه، ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك! فقال: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتقِ اللهَ وأوصل إليهم حقوقهم! فطأطأ رأسه، ثم رفع، فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقال: حج عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال لخازنه كم أنفقت؟ قال بضعة عشر درهماً، وأرى هاهنا أموالاً لا تطيق الجِمالُ حملها، ثم خرج(3).
وهناك أمثلة أخرى كثيرة، في كل عصور التاريخ الإسلامي ومراحله، وما مواقف الأئمة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وربيعة الرأي، وسلطان العلماء العزِّ بن عبد السلام، وابن تيميَّة، وغيرهم... وغيرهم... رحمهم الله جميعاً، تلكم المواقف ما هي ببعيدة عن الأذهان.
فهؤلاء لم يواجهوا الخلفاء هذه المواجهة إلا بما للأمة من سلطان مراقبة الحكام وتقويم اعوجاجهم، وما قَبِل منهم الخلفاءُ هذا التحدِّي، وما استجابوا لهم: إلا لعلمهم أنَّ للأمة سلطاناً، وأن عليهم أن يطأطئوا رؤوسهم لهذا السلطان(4).
■ خامساً: العلاقة بين السلطات:
مبدأ الفصل بين السلطات:
وقد جرى الباحثون الغربيون في العصر الحديث على تقسيم السلطات إلى ثلاث. وتبع ذلك الحديثُ عن فصل هذه السلطات، وهذا المبدأ ـ فصل السلطات ـ في مقدمة المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية الغربية.
تاريخ المبدأ في الفكر الغربي:
وكان أول من تحدَّث عن العلاقة بين السلطات في العصور الحديثة هو الكاتب الإنجليزي «جون لوك» الذي ذهب إلى ضرورة الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على أن تكون السيادة والصدارة للسلطة التشريعية. ثم جاء الكاتب الفرنسي «مونتسيكو» فعرض النظرية عرضاً مفصلاً في كتابه «روح القوانين» بحيث ارتبط هذا المبدأ باسمه وأصبح ينسب إليه ويعرف به.
المفهوم الصحيح لهذا المبدأ:
والتفسير الصحيح لهذا المبدأ: هو عدم الجمع بين السلطات في يد شخصية واحدة أو هيئة واحدة أياً كانت، بل ينبغي توزيعها وتقسيمها بين هيئات مختلفة، ضماناً لعدم إساءة استعمالها فتصبح أداة طغيان واستبداد. فهو مبدأ ظهر من أجل محاربة السُّلطة المطلقة للملوك الذين كانوا يجمعون في أيديهم السلطات الثلاث.
نقد المبدأ وعيوبه:
وهذا المبدأ في القانون الحديث واجه نقداً من وجوهٍ ثلاثة:
(أحدها): أن هذا الفصل غير حقيقي؛ لأن الواقع العملي هو أن السُّلطة التنفيذية تستولي حتماً على السُّلطة التشريعية؛ فلا يتحقق التوازن بين السلطات.
(الثاني): أن هذا الفصل قد يؤدي إلى التعطيل.
(الثالث): أنه قد تجتمع السلطات في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، ولا يؤدي ذلك إلى الفساد والاستبداد، والمثال على ذلك من قَبْل نظرية مونتسكيو، نجده في الدولة الإسلامية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد الخلفاء الراشدين، كما نجده في عصرٍ لاحقٍ لمونتسكيو، وهو خاص بسويسرا، التي لا تأخذ بهذا المبدأ، ومع ذلك فإن الحريات مكفولة فيها إلى حدٍّ يفوق الكثير من البلاد التي أخذت بهذا المبدأ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تأخذ بهذا المبدأ بصورة متطرفة(5).
النبيُّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتولّى جميع السلطات:
وعندما قامت الدولة الإسلامية في المدينة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمعت السلطات الثلاث للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان يتولَّى سُلطةَ التشريع؛ بما أوحاه الله ـ تعالى ـ إليه في كتابه الكريم، وبما قلّده من أمانة البيان والبلاغ للكتاب الكريم، كما تولَّى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بنفسه سُلطةَ القضاء بما أعطاه الله ـ تعالى ـ بقوله: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْـحَقِّ} [المائدة: 48]، كما استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- قضاةً على بعض البلاد أو في بعض القضايا، مما هو ثابت في عدد من الأحاديث. وأمَّا سُلطةُ التنفيذ ـ وهو ما عدا التشريع والقضاء من سائر الأعمال التي تتطلبها سياسة المسلمين وتدبير شؤونهم ـ: فقد كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عهده كما كان له التشريع والقضاء؛ لأن وظيفته ـ عليه السلام ـ تقتضي أن تكون الشؤون الثلاثة بيده؛ فهو رسول يبلِّغ الناس ما أُنزل إليهم من ربه، ويدعوهم إلى الإيمان به، وراعٍ يَسُوس من أجاب دعوته ويدبِّر شؤونهم على وفق ما شرع الله. وهذا التبليغ والتدبير ينتظمان أو يجمعان التشريعَ والقضاءَ والتنفيذَ.
وما كان للجمع بين هذه السلطات الثلاث أيُّ خطر من الأخطار التي تقتضي الفصل بين السلطات؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- معصومٌ، ولا يصدر منه قول أو فعل عن هوىً، غير أنه ـ عليه السلام ـ استقلّ بولاية التشريع وحده، وأما القضاء فقد تولاَّه بنفسه وولاّه غيره، وكذلك أعمال التنفيذ تولاَّها بنفسه وولاّها غيره. وقد تكفَّلت بعض الكتب المتخصصة ببيان الأعمال والوظائف التي كانت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن تولاها، سواء كانت من الأعمال الحربية أو المالية أو الدينية أو غيرها(1).
السلطات الثلاث في عهد الخلافة الراشدة:
ولما توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي اكتملت مبادئ التشريع الإسلامي، واكتفى المسلمون بالتطبيق والتفسير والاجتهاد، ومعنى هذا: أنَّ السُّلطة التشريعية مستقلةٌ تماماً عن السُّلطة التنفيذية والسُّلطة القضائية. أما السُّلطة التنفيذية فتولاها خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسائر عمَّال الدولة، وكان الخليفة كذلك يتولى السُّلطة القضائية؛ لأن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع، في الدعوة إلى الدين والمحافظة عليه وسياسة أمور الناس به، ومن مقتضيات هذه الخلافة: أن تكون له سلطة القضاء؛ لأن له أن يتولى كلَّ ما يقتضيه تدبيرُ شؤونِ المسلمين من تشريع وقضاء وتنفيذ، لهذا كان الخليفة يتولى القضاء بنفسه، وتارة يعهد به إلى غيره، وبخاصة عندما اتسعت رقعة الدولة منذ أواسط خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ فصار القضاء يتولاه في الأمصار الإسلامية قضاةٌ معيَّنون، وتعيينهم تارة يكون من الخليفة نفسه، وتارة يكون من الوالي الذي يعيِّنه الخليفة. فالسُّلطة القضائية ظلت تابعة للخلافة من الناحية العضوية وإن انفصلت عنها من الناحية الوظيفية؛ إذْ إنَّ القضاة في الدولة الإسلامية يطبِّقون الشريعة الإسلامية، ولا يطبقون أوامر الخليفة إذا تعارضت مع أحكام الشريعة(2).
■ مدى شرعية العمل بمبدأ فصل السلطات:
وإذا كان مبدأ فصل السلطات، أو توزيعها، له أهمية في القانون الدستوري في الأنظمة الغربية لظروف معينة ودواعٍ استدعت ذلك؛ فإنه ليس في الإسلام ما يوجب ذلك الفصل أو يمنعه؛ لأن الدولة الإسلامية دولة عقائدية تقوم على الدين والإيمان، وتسعى لتطبيق أحكام الشريعة والالتزام بها في كل مجالات الحياة ـ كما رأينا ـ فكلُّ ما يحقق أهدافها وغايتها في إقامة الحق والعدل ومنع الظلم والطغيان والعدوان: يمكن الأخذ به، ويجوز تنظيمه، لخضوعه للمصلحة العامة التي لا تخالف نصاً شرعياً أو قاعدة عامة، ممّا لا تضيق به قواعد الإسلام ومقاصده.
وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي ـ رحمه الله ـ: «فالفصل حقيقيّ تامّ بين السُّلطة التشريعية ـ وهي المقصودة في الحقيقة بالحماية والصيانة ـ وبين السُّلطة التنفيذية والقضائية. فالواقع أنَّ الأخيرتين تنفيذيتان بالنسبة للأولى؛ فإن القضاء إنما يطبِّق القانون، وتنظيمُه رهينٌ بالقانون ووليده؛ فالقانون هو أداة تنظيم القضاء، وبذلك فالسُّلطة التشريعية تعلو على السلطتين الأخريين، وتخضع هاتان السلطتان لعملها شكلاً (من حيث التنظيم) وموضوعاً (من حيث ما تطبقه من قواعد).
وأما السلطتان: القضائية والتنفيذية، فلم يكن الفصل واضحاً بينهما في البداية في الإسلام، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا الأئمة من بعده، يجمعون بين السلطتين معاً، ولكن صار الخلفاء من بعد ذلك يفوِّضون القضاةَ في أعمال القضاء، والولاةَ والعمالَ في أعمال التنفيذ. واعتمد الأمر في بعض الظروف على العرف أو قوة القاضي أو الوالي...».
■ الخلاصـة:
ثم يخلص ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ «الفصل تامٌّ وحتميٌّ ونهائيٌ في الإسلام بين السُّلطة التشريعية ـ أُمِّ السلطات ـ وغيرها. وأما السلطتان التنفيذيتان الأخريان، وهما ما تسمى إحداهما بالسُّلطة القضائية، فيقوم بينهما توزيع للاختصاص، وهو أمر يجوز تنظيمه لخضوعه للملاءمات والظروف في كل زمان، وهما تخضعان على أية حال لمشروعية واحدة، وتتلاقى أغراضهما، ومن ثم استحقاقهما لدرجة واحدة من الضمانات والاهتمام، خلافاً للنظرة العصرية التي تفاضل بينهما بتقديم القضاء على الإدارة»(3).
واللهَ ـ تعالى ـ أسألُ: أن يعيدَ الأمةَ إلى سالفِ عزتها ومنابع قوَّتها ؛ إذْ لا يصلح آخر أمرِها إلا بما صلح عليه أولها. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربَّ العالمين.
المصدر مجلة البيان
http://www.paldf.net/forum/showthread.php?p=419130