الادارة في الدول النامية بين النخب السياسية و الاجهزة البيروقراطية
خلال القرن الماضي انتهت فترة الحكم الاستعماري ، وظهرت دول مستقلة حديثا في القارات الثلاث آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ، ورغم الاختلافات بين هذه الدول فانها يمكن ان تسمى متطورة او نامية لما تشترك فيه من صفات . فجميع هذه الدول تمر في مرحلة التغير الاجتماعي ، وبلغة النماذج فانها تمر بمرحلة انتقالية من النوع التقليدي الى النوع الحديث .
ايديولوجية التطوير :
تتشابه الدول النامية في الاهداف التي تتوخاها من التغيير ، ولاهمية الجانب الايديولوجي فأن اهم عناصرها :
• ان الهدف المزدوج للتطوير هو البناء القومي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي . وهذه الاهداف مشتركة بين القادة السياسيين في هذه الدول بالرغم من الاختلاف في الاتجاهات والستراتيجيات السياسية . ويعرف البناء القومي بأنه " العملية المخططة لصياغة وقولبة مجتمع سياسي متكامل ضمن حدود جغرافية معينة حيث تكون فيه الدولة الامة ، المؤسسة السياسية الرئيسة . ومما يثير التناقض ان نجد مفهوم الدولة الامة قد اكتسب قوة تأثير في باقي انحاء العالم في نفس الوقت الذي اصبح فيه مفهوم الامة كوحدة سياسية وكعقيدة محل استفهام في الغرب وهو المكان الذي انبثقت منه هذه المفاهيم .
ان الانجاز الحقيقي لمفهوم الامة ليس مهمة سهلة في معظم الدول حديثة الاستقلال ويستلزم النجاح في مواجهة تحدي التطور السياسي الذي يتطلب خلق نظام من المؤسسات السياسية القادرة على تنظيم السكان في الدولة وتعبئة الموارد المادية والبشرية بهدف تحقيق التقدم السياسي والاجتماعي والقدرة على معالجة مشاكل التغير السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون التخلي عن دورها في الرقابة او في تعبئة الموارد . وبينما كانت عملية التطوير في اوربا عملية اصيلة وبطيئة ، وحصلت على يد ابناء المجتمع فكانت اصيلة ومن المجتمع ، اذ اعطت مختلف فئات المجتمع مزيدا من الوقت للتكيف ، مما قلص صدمة التحول المفاجيء . اما الدول النامية فهي على العكس من ذلك ، تواجه مشكلة التطوير من الخارج الأمر الذي يعني ضرورة التحلل المفاجيء من الماضي والاعتماد على الاجانب او بعض المواطنين او من كليهما .
ان قيام امة حديثة يحتاج لمشاركة المواطنين قاطبة رجالا ونساء في الامور العامة وفي ممارسة حقوقهم وتحمل مسؤولياتهم كأعضاء في المجتمع الاكبر الذي يتجاوز مناطقهم الجغرافية المحدودة وعلاقاتهم العائلية.
اما هدف تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي في ايديولوجية التطوير فهو على نفس المستوى من الصعوبة بالرغم من انه اكثر قبولا للقياس والظهور ، وتعرف هذه العملية بانها " عملية التحسين المستمرة الشاملة في النواحي المادية وفي مجال الرفاه الاجتماعي " وتعبر الرغبة في الانتصار على الفقر وفي توزيع ثمرات التصنيع في المجتمع حوافز قوية لدى المواطنين في الحصول على ما تتمتع به الدول المتقدمة .
ولاشك ان ايديولوجية التطوير تحدد طموحات العمل السياسي والاداري رغم انها لاتحدد الاداة السياسية والادارية اللازمة لتحقيق ذلك بدقة .. ان ثمة رغبة قوية لايجاد حكومة قوية ورئيس قوي ومركزية على درجة عالية ، وذلك للافتراض السائد انه بدون وجود الحكومة القوية ، والقيادة العامة القوية فان مهمة تحقيق الوحدة الوطنية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية تصبح عملية صعبة .. والنهج الذي يسود في هذه الدول يفضل تقليد وتكييف خبرات الدول المتقدمة بغض النظر عن الايديولوجيات السياسية المتبعة .
سياسات التطوير :
ان معرفة الاساليب السياسية في الدول المتطورة بدائية مبعثرة ، الا انه بالرغم من ذلك ، يمكن تحديد بعض المظاهر الرئيسة للسياسة التي تحكم عملية التطوير ، ومن هذه المظاهر :
• وجود ايديولوجية تطوير تعكس الاهداف السياسية الاساسية .
• الاعتماد بشكل كبير على القطاع السياسي لتحقيق الاهداف المرجوة في المجتمع .
• عدم الاستقرار السياسي .
• قيادة النخبة ووجود هوة سياسية بين الحاكمين والمحكومين .
• عدم وجود توازن في نمو المؤسسات السياسية وقوة البيروقراطية الزائدة .
ان طبيعة الاهداف التطويرية والحاحها يحتم على الدولة ان تكون الاداة الرئيسة لتحقيقها ، اذ لايتوفر الوقت والوسائل للمنهج التدرجي في التطوير ، ولا الاعتماد على القطاع الخاص للقيام بهذا الدور كما كان الحال في تجربة الدول الغربية . ان العنصر السياسي يقوم آليا بدور رئيسي في مجتمعات الدول المتطورة . ومهما يكن الأمر فانه ينظر للدولة كمصدر الامل الرئيس لتوجيه المجتمع نحو التحديث .
أما المظهر الثاني فهو عدم الاستقرار السياسي في هذه الدول ، وشيوع ظاهرة الانقلابات العسكرية ومحاولات القيام بها . لذا فان مشكلة الحفاظ على الاستقرار ما تزال المشكلة الرئيسة التي تواجهها الدول المتطورة .
وتتركز القيادة السياسية في الدول النامية في يد فئة محدودة من السكان معزولة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا عن باقي فئات المواطنين . ويحدد ميهدن اربعة نماذج للقيادة السياسية وهي الاستعمارية، والتقليدية ، والوطنية ، والاقتصادية .
وعلى الرغم من تعارض الخلفيات والاتجاهات الثقافية للقادة الجدد والتقليديين الا انهم يتفقون في التزاماتهم بأهداف التطوير التي تتمثل في البناء القومي والتصنيع . وتدرك الفئة التقليدية قيمة التقنية الغربية التي يعرفها اعضاء الفئة العصرية وامكانية الاستفادة منها للحفاظ على سلطتها ، وضرورة ان يغير اعضاءها من مناهج سلوكهم حتى لايطاح بهم على يد الجماهير الواعية المثقفة .
ومهما كانت طبيعة التركيبة في القيادة في دولة معينة ، فمن المؤكد ان القيادة السياسية ستكون بعيدة عن الاتصال بالجماهير ، فأغلبية المواطنين الفلاحين في معظم هذه الدول لم يتأثروا ولم يغيروا طرق عملهم التقليدية في العمل الا قليلا فهم لايزالون يعتقدون ان افضل وسيلة للتعامل مع الحكومة هو محاولة تجنبها وعدم الوفاء لها ، ولذلك فهم لايهتمون بالمشاركة السياسية ، فالسلبية وعدم تحمل المسؤولية ظواهر شائعة ، وكثيرا ما تقابل الجهود الرامية للتحديث والنمو بالمعارضة والمقاومة ، مما يعقد مهمة القيادة ، بأستثناء تلك الدول التي ظهر فيها طبقة وسطى مثقفة ، لذلك نجد ان اسلوب الحزب الواحد هو مظهر من مظاهر الحكم في هذه الدول ،و له ما يبرره بصفته الوسيلة الوحيدة لتجاوز هذه الفجوة بين الحكام والجماهير .
اما الميزة الاخرى فهي الاختلال السياسي الذي كان نتيجة وجود النماذج المختلفة التقليدية ، والاستعمار ، الذي ادى الى وجود النماذج المختلفة التقليدية ، والاستعمار ، الذي ادى الى وجود انظمة سياسية منحرفة بالمقارنة مع الوضع في الدول الاكثر تقدما وبخاصة تلك التي تتواجد فيها مؤسسات ديمقراطية تمثيلية . ان هذه الدول تفتقر تماما الى وسائل مناسبة للتعبير كوجود ناخبين على مستوى من الوعي او جماعات مهنية منظمة او احزاب سياسية ، وهيئات تشريعية ممثلة للشعب ، واذا وجدت هذه الوسائل فيها فانها تكون ضعيفة وبدائية ، وعلى النقيض من ذلك فالاجهزة التقليدية تتمتع بسلطات وقيادة قوية .
الابتعاد عن نظام تعدد الاحزاب : ان طابع وجود حزب سياسي وحيد هو العنصر السياسي الذي يميز الانظمة السياسية في الدول المتطورة النامية . ان اسباب هذه الظاهرة واضحة تماما اذ ان النظام الاستعمار احتوى النواة لنظام الحزب الواحد. فالبيروقراطية التي سيطر عليها الحزب الواحد تزعم انها ممثلة لقطاعات ومصالح المجتمع ، وهو نفس الادعاء الذي ادعته البيروقراطية الحاكمة . وبالاضافة الى الرغبة الطبيعية لدى الذين قادوا حركات الاستقلال في ان يروا انفسهم ( ناطقين بأسم الامة ، ومن ثم باسم الدولة بعد تسلمهم مقاليد الحكم وان افكارهم تعكس بالضرورة رغبات الجميع ، فهم لايرون في الذين يخالفونهم الرأي معارضين سياسيين بل اعداء للدولة وللشعب ) .. وتبرير وجود الحزب الواحد هو الحفاظ على السلطة ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وللحفاظ على الوحدة الوطنية بعد التخلص من السيطرة الخارجية ، أي عقيدة احتكار السلطة .
و تعتبر ظاهرة التدخل العسكري في الدول النامية ظاهرة بارزة الى حد جعلها موضع كثير من التحليل والتأمل . وتدل الاحصاءات على وجود نزعة متزايدة نحو الانظمة العسكرية ، وتضيف الامثلة الحديثة على تدخل الجيش وتوليه مقاليد الحكم اهمية ِ، فوفقا لما يراه ويلش " ان ما يزيد على ثلث عدد الدول الاعضاء في هيئة الامم المتحدة هي حكومات فرضها العسكريون . "
الملامح الادارية المشتركة :
يعترف معظم المختصين بمشاكل التنمية بأهمية الادارة ، اذ يؤكد الكثيرون على العلاقة المتينة بين وجود جهاز بيروقراطي متطور وبين وجود قيادة عصرية كمستلزمات للتقدم ، وعلى حقيقة تجاهل دور الادارة كعنصر مهم في التنمية ، فالاجهزة الادارية في هذه الدول تكون غير كفوءة وتعاني من العديد من المشاكل ، كما يتضح من خصائصها ، التي تتلخص كالاتي :
• الادارة العامة ادارة مقلدة اكثر منها اصيلة . اذ ان معظم الدول حتى تلك التي لم تخضع للاستعمار ، تحاول ان تنقل صورة البيروقراطية الغربية . وتميزت الادارة في هذه الدول بأنها ادارة تقتصر على فئة محدودة نخبوية وذات نظرة ابوية .
• افتقار البيروقراطيات الى الكوادر الماهرة القادرة على تخطيط وتنفيذ البرامج التنموية ، ان اجهزة الخدمات العامة تعج بالموظفين الزائدين في المستويات الدنيا مثل الخدم والمراسلين والكتبة الصغار وغيرهم .. ولكن النقص يتمثل في عدم وجود الاداريين المدربين ذوي القدرات الادارية والمهارات التنموية ، والكفاءات الفنية ، ومع ان هذا يعكس حقيقة عدم كفاية النظام التربوي الا انه لايعني قلة عدد حاملي الشهادات الجامعية ، ففي بعض الدول مثل مصر والهند نجد ان هناك اعدادا كبيرة من المتعلمين العاطلين عن العمل وهم درسوا تخصصات غير مطلوبة او انهم تخرجوا من مؤسسات غير معترف بها .
• وجود اتجاهات غير انتاجية في الاجهزة البيروقراطية حيث يوجه نشاط البيروقراطية لخدمة اهداف اخرى غير الاهداف المرجوة منها . كما يشير رجز لذلك بانها رغبة البيروقراطيين لتفضيل المصالح الفردية على حساب المصلحة العامة . ان انتشار هذه الممارسات ما هو الا استمرار لقيم متأصلة من الماضي ، لم تتغير رغم تبني الهياكل الاجتماعية الحديثة ، فالمركز الاجتماعي في هذه المجتمعات يقوم على معايير شخصية ، وليس على معايير الانجاز . وان عمليات التوظيف تتأثر بالاعتبارات الشخصية رغم الادعاء بوجود نظام الكفاءة .
• التناقض الكبير بين الوضع الرسمي والواقع او ما يسمى بالازدواجية في المعايير ، ويسمي رجز هذه الظاهرة بالشكلية ، وهذه الظاهرة نتيجة طبيعية للمظاهر التي ذكرناها وتعكس الاصرار على الظهور بمظهر ما يجب ان تكون عليه الامور خلافا لما هو عليه الواقع .
• تتمتع البيروقراطية في هذه الدول بدرجة استقلال كبيرة بسبب التقاء قوى كثيرة فيها . فقد كان الاستعمار يحكم هذه الدول من خلال البيروقراطية التي تأتمر بالسياسة العامة من مصادر بعيدة والظاهر ان هذا النهج استمر حتى بعد تغير الوضع ، فالبيروقراطية في الدول النامية تحتكر الخبرة الفنية ونتفع بمزايا الهيبة في مجتمع يهدف للتصنيع والتطوير الاقتصادي ، اما البيروقراطية العسكرية فهي التي تمتلك اسلحة القهر والاجبار .
الخصائص المشتركة للبيروقراطية في الدول النامية :
1. مشكلة الانحراف الاداري : وهو احد اخطر جوانب الظاهرة البيروقراطية ويتمثل في شيوع السلوك الانتهزي الاناني ، وشيوع الوساطة والمحاباة . ولاشك ان الانحراف الاداري هو انتهاك لكل الاخلاقيات والقيم التي هي بمثابة الاساس الذي يجب ان يعلو فوق أي نمط من انماط السلوك الاداري الصحيح . كما ان الامر يرتبط في جانب اساسي منه بعدد من العوامل والاعتبارات التي تدفع الى ظهوره ، ومن اهمها :
• تصميم هياكل بيروقراطية بطريقة لاتستند الى الاسس والمقومات التنظيمية السليمة .
• تخلف القيادات الادارية وضعف تأثيرها على مجموعات التابعين .
• سوء التربية الاجتماعية والقومية وتخلف المناخ الاجتماعي العام .
• ضعف المستوى المادي للوظيفة الحكومية .
• عدم كفاية نظم الحوافز المادية والمعنوية المعمول بها .
• سيطرة الشعور بالقلق النفسي وعدم الأمان .
2. البيروقراطية ومشكلة الهبوط في مستوى الكفاءة الادارية : وهذه المشكلة تمثل حجر الزاوية في معظم حملات النقد الموجهة ضد البيروقراطية ، لان الدول النامية تعاني عموما من انخفاض مستوى الكفاءة الادارية ، بسبب :
• كثرة القيود الاجرائية .
• التمسك بحرفية القوانين واللوائح .
• عدم التقدير الكافي لقيمة الوقت كعنصر حيوي من عناصر العملية الادارية .
• شيوع المناخ الاحباطي .
3 - مشكلة الاستبداد بالسلطة .
4 - صعوبة التأقلم مع البيئة .
5 - البيروقراطية ومشكلة التضخم .
6 – امتداد التضخم الى البناء الحكومي .
7 - تعدد مستويات التنظيم .
8 - الاسراف وارتفاع التكلفة الاقتصادية للخدمة او الانتاج .
9 - الفساد الاداري .
10 - اضفاء طابع السرية الشديد والمفتعل .
11 - الجنوح نحو النمطية .
12 - عدم الاعتماد على الاساليب العلمية .
13 - الاعتماد على غير الكفاءات في الادارة العليا .
14 – قضية الديمقراطية وتحديات البيروقراطية .
15 - عدم التنسيق بين المؤسسات والادارات المعنية .
المصادر :
ــــــ
1 - فيرل هيدي ، ترجمة واعداد الدكتور محمد قاسم القريوتي " الادارة المقارنة الحديثة " دار المستقبل ، عمان ، 1989
2 – الدكتور محمد فتحي محمود " الادارة العامة المقارنة " الرياض 1997
3 - الدكتور ابراهيم درويش " الادارة العامة ، نحو اتجاه مقارن " القاهرة 1974
http://hrdiscussion.com/hr2092.html