آخر تحديث: الخميس 19 مارس 2015, 1:47 ص
الشك الديكارتي.. الطريق الملكية إلى اليقين
يتحدث ديكارت بضمير المتكلم بوعي عن خطوات يتخذها واحدة تلو الأخرى، لتصل به إلى أن الشك يطال كل شيء مادي وروحي إلا أنه في حالة الشك هذه لا يزال متيقنا من قضية أساسية وهي أنه يفكر
هذه المقالات هي جزء من بحث أطول في تاريخانية الشك أو في إبستمولوجيا الشك عبر التاريخ الفلسفي. الأطروحة الأساسية لهذا البحث تقول إن مفهوم الشك ومعناه قد تحوّل وتبدّل خلال التاريخ الفلسفي، وإن مفهوم الشك في عصر ما هو البرادايم أو النموذج الذي يحكم المعرفة في ذلك العصر. اليوم نقف باختصار عند لحظة ديكارت. يعتبر ديكارت، كما هو معروف، نقطة التحول في التاريخ البشري، فبه افتتح عصر الحداثة،لا يعني هذا اختزال كل تغيير في شخص ديكارت بقدر ما أن ديكارت كان المعبّر الأكبر والأوضح عن تحولات عصره. الشك هو أساس فلسفة ديكارت وروحها المحركة. ومع ديكارت أصبح الشك شيئا جديدا، فهو الآن منهج للوصول إلى الحق. لم يعد الشك حالة يصل لها الباحث تؤدي به إلى اللا أدرية أو تمنعه من القول بوجود معرفة موضوعية كما عند اليونان. ولم يعد الشك أيضا حالة ضياع نفسية يمر بها الباحث عن الحق ويحتاج إلى إنقاذ كما حدث مع إبراهيم النبي أو الغزالي، بل أصبح الشك منهجا للوصول إلى المعرفة وأساسا تؤسس عليه المعارف الجديدة.
الشك عند ديكارت يختلف بدقة عما قبله من عدة نواح يذكرها جلال الدين سعيد، فهو أولا: شك إرادي لا مرضي كما عند الغزالي. هو أمر يقرره الباحث بوعي وإرادة من أجل عملية البحث. إنه طريق المعرفة. ثانيا: الشك عند ديكارت شك قطعي وجذري يقول"إذ اعتبر الأشياء المشبوهة كما لو كانت خاطئة". ثالثا: الشك عند ديكارت عام وكلي" فهو قد شك حتى في أكثر العلوم بداهة، أي في الرياضيات". رابعا: الشك عند ديكارت شك وقتي" فغايته هي الخروج من الشك، وهو لا يشك إلا لكونه يكره البقاء في الشك". خامسا: الشك الديكارتي شك منهجي."له خصائص محددة، وللخروج من حالة الشك الكلية فلا بد من الالتزام بقواعد المنهج التي وضعها". ( معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، ص258).
أراد ديكارت أن يحصل على معرفة يقينية ولكنه وجد بوضوح أن المعارف التي تحيط به معرضة للخطأ ومشبوهة ولا يمكن أن يؤسس عليها معرفة يقينية. عبّر ديكارت عن هذه الفكرة في أغلب مؤلفاته، ففي كتاب "حديث الطريقة" أو "مقال في المنهج" يقول "فقد فكرت أنه من الواجب أن أدأب على عكس ذلك، وأن أنبذ كخطأ مطلق كل ما ألمس فيه أدنى شك"، وكذلك في "التأملات"، التأمل 1 يقول"وكل ما يمكن أن يمثل لي منها موضوعا للشك سيكون كافيا لجعلي أرفضها جميعا". والمبادئ ج1فقره 2 " وسيكون من المفيد جدا أن ننبذ كأشياء خاطئة كل التي نتخيل فيها أدنى شك".
أغلب المعارف التي بحوزتنا هي تلك التي اكتسبناها عن طريق العادة والتقليد. من الأب والأم ومعلم المدرسة ورجل الدين. وهذه المعارف تكون حاجزا دون المعرفة العقلية. يقول ديكارت في حديث الطريقة " تعلمت ألا أثق وثوقا نهائيا من كل ما لم أتعلمه إلا من التقليد والعادة، وهكذا تخلصت شيئا فشيئا من أخطاء كثيرة يمكن أن تخمد نورنا الطبيعي وتجعلنا أقل قدرة على فهم لغة العقل). (ص66-67).
يتحدث ديكارت بضمير المتكلم بوعي عن خطوات يتخذها واحدة تلو الأخرى، لتصل به إلى أن الشك يطال كل شيء مادي وروحي، إلا أنه في حالة الشك هذه لا يزال متيقنا من قضية أساسية، وهي أنه يفكر، ومن هنا أنتج أول قواعد المعرفة اليقينية، وهي وجود أناه المفكرة. يضع ديكارت هذه العملية ضمن التأملات الأولى التي قام بها ويتردد في عرضها على الجمهور بسبب أنها "على جانب من الميتافيزيقا"(حديث الطريقة، ص156). ولكن لا بد من ذكرها باعتبارها تمثل حجر الأساس للمعرفة اليقينية التي يبنيها ديكارت من خلال الشك. نحن هنا أمام المبدأ الأول للفلسفة التي كان ديكارت يبحث عنها. الكوجيتو "أنا أفكر، إذا فأنا كائن". وفي الصياغة اللغوية الفرنسية "إنني إذا كنت أفكر فأنا إذن موجود، لكن بوصفي كائنا مفكرا". ولكي يكون هذا الاستنتاج موثوقا به يشرح ديكارت ماذا يعني بالتفكير. يقول في المبادئ" إني أعني بعبارة تفكير كل ما يحدث فينا، بحيث أننا ندركه مباشرة بأنفسنا، ولذلك ليس التفكير هو الفهم والإرادة والخيال فحسب، بل كذلك الإحساس. إذ إنني إذا قلت إنني أرى وأمشي واستنتجت من ذلك أني كائن، وإذا عنيت من ذلك العملية التي تقوم بها عيناي أو قدماي، فإن تلك الخلاصة لا تكون صحيحة إلى حد يمنعني من الشك فيها، وذلك لأنه يمكن أن أعتقد أني أرى وأمشي، رغم أني لا أفتح عينيّ ولا أنتقل ألبتة من مكاني، إذ إن مثل هذا الأمر يحدث لي أحيانا في المنام، ويمكن أن يحدث لي الشيء نفسه حتى ولم يكن لي جسم بتاتا. على خلاف ذلك، فإذا عنيت عمل فكري أو إحساسي فحسب، أي المعرفة التي توجد لديّ، والتي تجعلني أعتقد أني أرى وأمشي، فإن الاستنتاج نفسه يكون على درجة من الحقيقة المطلقة، بحيث لا أستطيع الشك فيه، لأنه يتعلّق بالنفس..". (ديكارت، حديث في الطريقة، ج4).
في الكوجيتو تكمن "نقطة أرخميدس" للفلسفة الديكارتية. والكوجيتو لا يقدّم معرفة محددة بقدر ما يقدم دليلا على إمكان المعرفة. إن الشك مع الكوجيتو هو شكل من أشكال الوعي بالذات، وبمجرد ما يتضح هذا الوعي ونبعد عن الحجب القادمة من العادة والتقليد فإننا نعثر على مبدأ يجعل من المعرفة ممكنة ويجعل من الشك منهجا نصل من خلال السير عليه إلى الحقائق اليقينية. الشك مع ديكارت هو الطريق الملكية لليقين بعد أن كان طريقا لنبذ اليقين عند السفسطائيين، أو حالة من الضياع كما كان في القرون الوسطى، ولكنه سيعود ليكون روح المعرفة في القرن التاسع عشر، كما في المقالين الماضيين لتصبح المعرفة تحمل الشك في جوهرها ولا توجد إلا به.
عبدالله المطيري