القيم الإخبارية والإيديولوجية :
يقول
هاربرت غانس ( إذا انطوت الأخبار على قيم ما فإنها تنطوي على الإيديولوجية
، ومع ذلك فإن الإيديولوجية حاصل جزئي فقط عبر كامل القيم التي هي ليست لا
بالمنسجمة تماما ولا بالمندمجة كليا ) ومعنى ذلك أن القيم الإخبارية هي
عبارة عن قيم موافقة للإيديولوجية .
ولكي يصبح الحدث في مستوى الخبر
ليذاع أو ينشر عبر وسائل الإعلام يجب أن يتضمن قيمه الإيديولوجية والفكرية
أي أن تأثير الإيديولوجية يبرز في عملية اتخاذ القرار بشأن الأحداث التي
يجب تغطيتها ، وهذه العملية تكون في أيدي رؤساء التحرير والناشرين
والمحررين وحتى المخبرين أثناء جمع الأخبار ، وتكون لديهم غالبا أفكار
محددة في الطريقة الواجب إتباعها أثناء التحرير ، وحتى وإن كان القائم
بالاتصال يتمتع بالحرية والاستقلالية إلا أن هناك طريقة ما للتعرض
لإيديولوجية ما ، كما أن مبدأ الحرية في حد ذاته إيديولوجية أي أن القائم
بالاتصال قد تأثر بإيديولوجية الليبرالية ، إضافة إلى أن الحرية الإعلامية
تؤدي بالشخص لإبداء رأيه بحرية ولا يمكن أن يكون رأي القائم بالاتصال بعيدا
عن إيديولوجيته .
ونستطيع بكل تأكيد أن نفكر بمعية "رجيس دوبري" في
كتابه (السلطة الفكرية في فرنسا) بأن الإعلام اليوم أصبح أداة الدولة
المهيمنة في الحقل الإيديولوجي ، ولتوضيح ذلك مثال الإعلام الرسمي الحكومي
والتركيز على الأخبار التي تركز على الأحداث الوطنية مثل تدشين مرافق عامة
ومؤسسات ومصانع وغيرها من الإنجازات التنموية الوطنية ، هذا التركيز يعود
إلى أن تلك القيم الإخبارية خاضعة بشكل كبير إلى الإيديولوجية التي تطرحها
السلطة والسياسة الإعلامية أي أن القيم الإخبارية تكتسي القيم الإيديولوجية
.
كما أن القيم الإخبارية تختلف من مؤسسة إعلامية إلى أخرى باختلاف
القيم الإيديولوجية ، وفي المثال السابق عن الصور التي نشرتها صحيفة "الصن"
البريطانية في ماي 2005 وقد كان شبه عار بملابسه الداخلية في السجن فإن
بعض الوسائل الإعلامية العربية قررت عدم التعامل مع الصور نظرا لعدم
أخلاقيتها أو لأنها لا تحمل قيمة إخبارية ، بينما نشرت في العديد من
المؤسسات الإعلامية الغربية والبعض من العربية ، مع أن المؤسسات التي عارضت
نشرها كانت قد نشرت في السابق صورا له شبه عار مرتين وهو يسبح في نهري
الدجلة والفرات وكان ذلك ردا على إشاعات مرضه . فما الفرق بين المؤسسات
الإعلامية في تعاملها مع الصور وبين تعامل نفس الوسائل بطريقتين مختلفتين
مع صور السباحة وصور السجن ؟
( فهل صور صدام بالملابس الخاصة بالسباحة
في دجلة خبر يستحق النشر، وهو شبه عار. وصوره في السجن ليست خبرا ولا
أخلاقية؟ الجواب هو أن صور السباحة نشرها صدام من أجل أهدافه الخاصة. وصور
سجنه هذه الأيام نشرت كذلك من أجل أهداف خاصة. فهل ذاك إعلام مختلف عن هذا
الإعلام؟) .
طبعا كل مؤسسة إعلامية ولها قيمها الإخبارية التي تعكس قيمها الإيديولوجية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية .
لكل
وسيلة إعلامية أهدافها التي تراعي القيم الإيديولوجية ولها إعلامها الذي
يختلف عن الإعلام الآخر بتحكم الإيديولوجيات المختلفة ، فالقيم الإخبارية
إذن (عبارة عن بنية قيمية وإيديولوجية وذهنية وليست عبارة عن رصد أحداث
وقعت أو عناصر إخبارية لا تعكس مضمون القيمة التي يحملها الخبر) ، نفهم أن
الأحداث يجب أن تتضمن قيمة إيديولوجية كي تصبح في مستوى الأخبار الممكن
إذاعتها أو نشرها ، هذه الإيديولوجية هي فكر المؤسسة الإعلامية أو السلطة
السياسية أو المالكين الخواص والممولين .
رابعا : القيم الإخبارية و القيم المجتمعية :
يرى
جيرالد يونغ أنه من العبث محاولة الفصل بين القيم الإخبارية والقيم العامة
في أي مجتمع، فالقيم الإخبارية تتكون بنفس العملية التي تتكون بمقتضاها
قيم المجتمع ، وما يستنتج من هذا القول أن هناك علاقة دينامكية جدلية بين
القيم الإخبارية و الاجتماعية ، فنشاط القيم الإخبارية في أي مؤسسة إعلامية
لها أساسها ومرجعيتها في قيم المجتمع كما يمكن أن نجد هذه الأخيرة متضمنة
في الأخبار .
وإذا قلنا بأن القيم الإخبارية جزء من قيم المجتمع فهذا
يعني أن نشاطها لا يكون إلا ضمن وعاء القيم الاجتماعية ، فعندما تصطدم تلك
القيم الموجودة في الأخبار قيم المجتمع العامة يؤدي ذلك إلى التجلي أو عدم
التجلي ، التجلي إذا عكست القيم الموجودة في المجتمع وعدم التجلي إذا لم
تعكسها ، (ولا يمكننا أن نتصور أن أي وسيلة إعلامية يمكن أن تعادي النظام
الاجتماعي الذي تنتمي إليه، والاختلاف يمكن أن يكون في الشكل أو في الأسلوب
أو في الدرجة ولكن الاتفاق في الهدف موجود ودائما)
مثلا في المجتمعات
الإسلامية أو التي تسود فيها التعاليم الدينية بصفة عامة ، نجد أن الجنس
كقيمة إخبارية يفقد دلالته ، لأن قيم المجتمع لا تسمح بوجود تلك القيمة في
الأخبار وبالتالي إلى عدم التجلي ، ونفس الشيء بالنسبة للأخبار الشخصية
للمشاهير يفقد دلالته وقيمته الخبرية في المجتمعات التي تراعي الحياة
الشخصية للأفراد.
وإضافة إلى أن القيم الإخبارية تابعة لقيم المجتمع ،
فإن هذه الأخيرة تضبط الأولى وأي تغير يطرأ عليها يؤدي إلى تغير في قيم
الأخبار، أي أن هناك من المواضيع ما يعتبر طابوهات في مجتمعات محافظة لكن
مع مرور الوقت تصبح لازمة الحديث عنها وذات قيمة إخبارية ، وكمثال عن ذلك
نذكر مسألة الأولاد الغير شرعيين برزت بقوة تحل قيمة إخبارية عالية بعد
فضيحة أحمد الفيشاوي أو مسألة ختان البنات في مصر أصبحت مع مرور الوقت تثير
جدلا إعلاميا ولم تعد من الطابوهات ، وأصبحت ذات قيمة إخبارية تحمل عنصر
الاهتمام الإنساني ، أو مسألة الشذوذ الجنسي أيضا تطرح في الإعلام السعودي
والإيراني والإماراتي والتي تطبق حكوماتها عقوبة الإعدام على اللوطيين ،
ولا تطرح في المجتمعات الإسلامية الأخرى لكن مع مرور الوقت سوف تبرز لها
قيمة إخبارية عند بدء هؤلاء الشواذ بالمطالبة بحقوقهم على غرار الغربيين
وهو الذي قد حصل فعلا في مصر.
كما أن بعض الأحداث العرضية تمارس تأثيرها
على قيم الأخبار مما يؤدي إلى بروز المصلحة الذاتية في الأخبار دون مراعاة
لقيم المجتمع ، ويكون ذلك عند وجود مصلحة عامة للمجتمع أو السلطة أو ذاتية
لصاحب الرسالة الإعلامية أو الممول.
إذن فالتمايز بين الأنظمة
الاجتماعية عل مستوى العام يفرض وجود تمايز على مستوى السياسات الإعلامية
وعلى مستوى طبيعة القيم الإخبارية التي تقدم في كل نظام . ومنه فالفهم
الدقيق للقيم الإخبارية في أي مؤسسة إعلامية يخضع إلى فهم طبيعة النظام
الاجتماعي وطبيعة الحادثة أو الواقعة التي ستوصلها إلى الجمهور.
خامسا : تأثير الموضوعية والقواعد المهنية على قيم الأخبار :
الموضوعية
في الإعلام تعني الكثير، فهي عدم تحريف الخبر بالإضافة أو الحذف ، وكذلك
اختيار الأخبار بدون تدخل القيم الخاصة للقائم للاتصال ، ويرى البعض أنها
ممكنة في الإعلام بينما يرى آخرون أنها عبارة لا أساس لاستعمالها في
الأخبار لأن القائم بالاتصال لا يمكن أن يبقى بعيدا عن قيمه وإيديولوجيته
وعن رؤيته الشخصية سواء في جمعه للأخبار أو تصنيفها أو تضمينها في الصفحات
أو النشرات الإخبارية.
لكن الصحفيين الجدد يرون أن الكاتب أو المحرر
يستطيع فصل ذاتيته والعمل بنوع من الموضوعية وهناك بعض المعايير والإجراءات
التي تمكنه من ذلك وهي تقديم كل وجهات النظر حول الحدث المغطى، استعمال
أقوال الآخرين ، وتقديم أدلة محسوسة عما يقال .
وبناءا على ما سبق فإن
الأخبار ليست مجرد حقائق يعاد صياغتها بأسلوب لفظي لأن هذا الأسلوب يختلف
من محرر إلى آخر ويتأثر من مؤسسة إلى أخرى ، ولكن حقيقة الأخبار تكمن في
إعادة تشكيل تلك الحقائق من خلال البنية القيمية والإيديولوجية للقائم
بالاتصال والنظام الاجتماعي والسياسي السائد في كل بلد والذي يؤثر في
القائم بالاتصال.
إن ما يسمى بالموضوعية أمر صعب المنال لا يمكن تحقيقه،
مما جعل بعض الكتاب والنقاد يتحدث عن النزاهة والدقة والعدالة وتقليل
التحيز واحترام القواعد المهنية والأخلاق المهنية للقائم بالاتصال.
والموضوعية
تتمثل في عدم التحيز(*) بتناول موضوعات محددة بطابع ما أو برؤية واحدة
للأحداث وعدم الإلمام بجميع الجوانب الحقيقية للحدث، (كما ينبغي على وسائل
الإعلام أن تركز على وصف العملية الكلية بحيث تتساوى القيم الإخبارية
للأحداث السيئة مع القيم الإخبارية للأحداث الإيجابية )
أما بالنسبة
للقواعد المهنية والأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها الصحفي أو الإعلامي فهي
تؤثر أيضا بدرجة كبيرة في القيم الإخبارية ، حيث يتوقف الإعلام عند هذه
القواعد والأخلاق المهنية فتتغير القيم الإخبارية خاضعة لها ، ( فأما السعي
وراء الخبز بكل ثمن من شأنه أن يحط من القيمة التي يدعيها الصحفي ،
والصحفي مثقف ذو نظرة واسعة عميقة أبعد ما تكون عن حاجة اليوم العاجلة ،
يناضل بهدف التوصل إلى مجتمع إيجابي ) ..(*)