أولويات الاقتصاد الإسلامي .. تفعيل مؤسسة الزكاة
للدكتور: سامي السويلم- حفظه الله
هل الاقتصاد الإسلامي يقتصر على إزالة الربا من الاقتصاد؟ أم أن هناك ما هو أهم من ذلك؟
لا
ريب أن هناك ما لا يقل أهمية عن إزالة الربا، ألا وهو الزكاة¬—الركن
الثاني من أركان الإسلام. فإحياء الزكاة وتفعيل مؤسساتها أهم بمراحل من
إزالة الربا. ويكفي أن الأمر بالزكاة كان من أوائل ما نزل بمكة من التشريع،
بينما تأخر التحريم الصريح للربا إلى ما بعد غزوة أحد، في السنة الثالثة
من الهجرة. فالأمر بالزكاة جاء صريحاً في النصوص المكية، مثل قوله تعالى:
"وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة وذلك دين القيمة". وأول آية صرحت بالنهي عن الربا نزلت بعد غزوة
أحد: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله
لعلكم تفلحون".
وحكمة تقديم الزكاة على تحريم الربا تظهر من خلال فهم
مشكلة الربا وأسباب وجوده. فالربا ينشأ من جهتين: حاجة المقترض، وشح
المقرض. فالحاجة من جهة الطلب، والشح من جهة العرض. فجاءت نصوص الشرع
الحكيم بمعالجة الأمرين من خلال الأمر بالزكاة والصدقة والعطف على المسكين
واليتيم ونحوها من النصوص. فالزكاة تغني المحتاج أو تخفف من عوزه، وفي
الوقت نفسه تربي صاحب المال على السخاء والبذل وتستل جذور الشح والبخل من
قلبه. وبذلك تعمل الزكاة على استئصال الربا من الجذور. وهذا بطبيعة الحال
يأخذ وقتاً ولا يتم بين عشية وضحاها، ولهذا تأخر تحريم الربا الصريح نحواً
من عشر سنين. فلما نزلت آية تحريم الربا كانت البيئة النفسية والاجتماعية
مهيأة وجاهزة لاستقبال الحكم وامتثاله على أكمل وجه.
وهذا يبين تكامل
النظام الإسلامي وترابط أجزائه. كما يبين خطأ التركيز على جانب وإهمال
الآخر. وهذا هو الحاصل الآن للأسف، حيث يتم التركيز على مؤسسات التمويل
الإسلامي الربحية، مع إهمال كبير للمؤسسات غير الربحية، وعلى رأسها مؤسسة
الزكاة. فمحاولة إزالة الربا دون تفعيل مؤسسة الزكاة يؤدي إلى خلل جوهري في
مسيرة التمويل الإسلامي، على مستوى الفهم والتنظير، وعلى المستوى الممارسة
والتطبيق.
وليتضح مقدار هذا الخلل، دعنا نسأل: ماذا يحدث إذا وجد
التمويل الربحي، مثل البيع الآجل ونحوه، قبل معالجة مشكلة الفقر وقبل
معالجة التفاوت الفاحش في توزيع الثروة؟
الجواب ليس عسيراً، فالتمويل
سيتجه تلقائياً لمحاولة سد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، ومن ثم تلبية
الاحتياجات الاستهلاكية على حساب النشاط الإنتاجي. وحيث أن معظم التمويل
الاستهلاكي يتم من خلال المداينات، فإن هذا سيؤدي إلى تحويل قطاع كبير من
المجتمع إلى خانة المدينين لأصحاب الأموال. ونظراً إلى أن معظم التمويل
سيتجه للأغراض الاستهلاكية، فإن مساهمته في رفع مستوى التوظيف ستكون ضعيفة،
وهو ما يجعل التمويل في النهاية مبادلة صفرية لمصلحة الدائنين.
وحيث
أن التمويل ربحي وليس مجانياً، فإنه سيزيد من ثروة أصحاب الأموال ويؤدي من
ثم إلى زيادة الفجوة في توزيع الثروة بدلاً من تضييقها. وهذا بدوره يستلزم
دورة جديدة من التمويل، التي تعمل هي أيضاً على زيادة الفجوة، وهكذا.
وبذلك تزداد الفجوة اتساعاً، ويتضاعف مستوى المديونية، ويتراجع معدل النمو
الاقتصادي.
ولكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد. فنظراً لأن التمويل
الإسلامي بطبيعته لا يسمح بالتوسع في المديونية ويقيدها دائماً بالنشاط
الحقيقي، وحيث إن هذه الدوامة في التمويل الاستهلاكي لا تقبل التوقف عند
حد، فإنها ستؤدي إلى محاولة الالتفاف على الضوابط الشرعية للتمويل من أجل
الحصول على السيولة وجدولة الديون، لتصبح النتيجة في النهاية لا تختلف عن
التمويل الربوي. وهذا ما يؤدي بدوره إلى جعل الحيل والأساليب الصورية في
التمويل، التي لا تختلف في جوهرها عن الربا، جزءً أساسياً من الحياة
الاقتصادية.
وهكذا نجد أن غياب الدور الفاعل لمؤسسة الزكاة يؤدي إلى
سلسلة من الأخطاء في الاجتهاد وفي التطبيق. فهو يفرغ التمويل الإسلامي من
مضمونه، كما يجعل الحيل الربوية تظهر كأنها ضرورة لا يمكن الفكاك منها، مع
أنها في واقع الأمر لا تزيد المشكلة إلا سوءً. وأصبح هذا الواقع العليل، مع
اتهام الناس بالشح والضن بالمال، سنداً للفتاوى بجواز الحيل أصالة
واختياراً، لا كراهة واضطراراً. وهذه الفتاوى بدورها رسخت الانحراف عن
أهداف الاقتصاد الإسلامي ومبادئه، لتنشأ دوامة أخرى تعزز دوامة المديونية
وتُنظـّر لها.
وحقيقة الأمر أن المسلمين يحبون الخير والبذل والعطاء،
ويملكون من روح المواساة والتكافل ما لا يوجد عند غيرهم من الأمم، ومن ظن
فيهم خلاف ذلك فهو حري بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال هلك الناس
فهو أهلكهم". وإنما المشكلة في غياب المؤسسات التي تحول هذه الميول النبيلة
من رغبات كامنة إلى واقع قائم ونمط اجتماعي راسخ. فالمؤسسات غير الربحية،
وعلى رأسها مؤسسة الزكاة، هي الأساس في بناء الاقتصاد الإسلامي. وإذا اختل
الأساس اختل البناء ولا بد، وأصبح التمويل الإسلامي من ثم عاجزاً عن تحقيق
أهدافه.
وأياً كانت الأسباب التاريخية التي أدت إلى تراجع هذه
المؤسسات، فمن الخطأ الاستسلام لهذا الواقع فضلاً عن محاولة التنظير له من
خلال تسويغ الحيل الربوية. بل يجب المبادرة لإحياء مؤسسات الزكاة والقرض
الحسن وسائر الأنشطة غير الربحية، وتفعيلها ووضعها في المستوى اللائق بها.
والشريعة
الإسلامية قدمت الحوافز المادية قبل المعنوية لتفعيل هذه المؤسسات
وتشجيعها. ويكفي أن القرآن جعل من مصارف الزكاة مصرف العاملين عليها، بحيث
يصل نصيب القائمين على الزكاة إلى ثُمن حصيلة الزكاة أو أكثر من 12%، حتى
لو كانوا أغنياء. بل نص الفقهاء على أنه أول ما يبدأ به من الزكاة هو سهم
العاملين عليها، لأنهم يأخذونه على وجه المعاوضة، وغيرهم يأخذ على وجه
المواساة. هذه الحوافز من شأنها أن تجعل القائمين على الزكاة يتفانون لرفع
حصيلة الزكاة، من خلال تسهيل وسائل دفعها، ومن خلال إيصالها لمستحقيها،
والالتزام بمعايير الشفافية والمهنية في العمل. وبذلك ترتفع ثقة أصحاب
الأموال في أجهزة الزكاة، وتتحسن كفاءة أدائها، ويظهر من ثم أثرها في
معالجة الفقر وتخفيف حدة توزيع الثروة.
والزكاة نفسها تشجع على القرض
غير الربوي أو القرض الحسن، الذي تكثر الشكوى من غيابه وندرة مصادره. وذلك
أن الفقهاء اختلفوا في حكم زكاة الدين المؤجل على الدائن. فالجمهور يرى
وجوب الزكاة على الدائن، على خلاف بينهم في التفاصيل. وذهب بعض الصحابة
والتابعين ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى عدم وجوب الزكاة في الدين
المؤجل على الدائن. ومن الممكن الجمع بين القولين بأن يكون الوجوب في
الديون الربحية، أي التي نشأت عن بيع أو معاوضة. أما الديون غير الربحية،
كالتي تنشأ عن قرض بدون زيادة، فلا تجب فيها الزكاة.
وهذا مع كونه يجمع
بين القولين، فهو يناسب مقاصد التشريع وحكمته. فإن من يقرض ماله بلا مقابل
قد تصدق بمنفعة ماله للمقترض مدة الأجل، فناسب ألا تجب عليه الزكاة لئلا
يقع الازدواج أو الثني في الزكاة. أما من باع بثمن مؤجل فهو لم يتصدق بشئ
فتجب عليه الزكاة. ويشهد لذلك أيضاً ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة". فمن أقرض المال بلا مقابل فكأنما
تصدق بنصفه.
وبذلك يمكن إيجاد الحوافز للقرض الحسن من خلال الإعفاء من الزكاة، وهذا يؤكد أهمية مؤسسة الزكاة في تشجيع النشاط غير الربحي عموماً.
إن
أزمة الاقتصاد الإسلامي اليوم، كما هو الشأن في كثير من المشكلات التي
تعاني منها المجتمعات الإسلامية، نشأت أساساً من غياب الأولويات، وغياب
التخطيط المنهجي تبعاً لذلك. وكان الواجب أن نبدأ بما بدأ الله تعالى به،
وهو الزكاة، وليس تأخيره حتى يصبح على الوضع الذي نراه الآن. ومن المؤسف أن
نجد مؤسسات التمويل غير الربحي في الدول الرأسمالية أكثر تقدماً وفاعلية
منها في الدول الإسلامية، مع أننا أحق وأجدر بذلك من سائر الأمم. ومهما
كانت الأسباب التي أدت لذلك في الماضي، فيجب المبادرة لتصحيح الوضع وإحياء
مؤسسات الزكاة والقرض الحسن وسائر المؤسسات غير الربحية، لتؤدي دورها
الأساسي في بناء الاقتصاد الإسلامي المنشود.
والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.