اختلف الناس منذ قديم الزمان حول تلك البحيرة.. ليس عن الغرق بها!.. وإنما عما يسكن داخلها..
يقولون إن هناك وحشا ما بالقاع.. ليس أسطورة بالمعنى المفهوم.. لأن هناك من يُصر على أنه شاهده بالفعل وجهًا لوجه!!..
دعونا لا نطل بالمقدمات.. لندخل مباشرة على وحش بحيرة "لوخ نِس"..
بداية الأسطورة:
عندما وصل الرومان لأول مرة إلى إسكتلندا الشمالية في القرن الأول الميلادي، وجدوا المرتفعات مأهولة بقبائل شرسة يسمى أهلها بالملونين "نسبة إلى الوشم الذي يغطيهم".. تلك القبيلة كانت تقدس الحيوانات بشكل خاص، وكان معظم الوشم على أجسادهم عبارة عن رسم لحيوانات. يذكر أيضاً أن تلك القبيلة كانت شديدة البراعة بالرسم، ومن أغرب الرسومات الجدارية التي وجدها الرومان قرب بحيرة نِس
(Loch Ness) -وكلمة لوخ هي المرادف لكلمة بحيرة باللغة الإسكتلندية- رسم جداري لوحش ذي خطم طويل، ذي زعانف محل القدمين.. تم وصف هذا الوحش من قبل بعض الباحثين بأنه أشبه بفيل يسبح في الماء، ووصف هذا الوحش الذي ارتبط بقبائل الملونين كان بداية الأسطورة.. أسطورة وجود وحش مائي في تلك البحيرة.. بحيرة لوخ نِس.
ارتبطت وحوش الماء بالفولكلور الإسكتلندي كثيراً، بداية من الأنهار الصغيرة حتى البحيرات شاسعة المساحة، بداية بأساطير أحصنة الماء أو (kelpie) وهي أسطورة عن وحش مائي يشبه الحصان يحاول إغراق كل من يقترب من البحيرة التي يقطنها من أطفال محاولاً إغراءهم بالركوب على ظهره، ومن ثم تلتصق أيدي الطفل بالوحش الذي يغوص به إلى أعماق الماء حتى يغرقه.
كانت -على الأرجح- مذكرات القديس "كولومبا" (Columba) عام 565 ق.م والذي كان له الدور الأساسي في نشر الديانة المسيحية باسكتلندا، من أوائل المخطوطات التي ذكرت اسم وحش "لوخ نِس".. يحكى أن هذا القديس كان في طريقه لزيارة ملك قبائل الملونين مرورا ببحيرة لوخ نس، فرأى وحشاً هائل الحجم يوشك على مهاجمة شخص يسبح بالبحيرة، فأخذ القديس يبتهل إلى الله ويأمر الوحش بأن يذهب في سلام، فامتثل الوحش له وتم إنقاذ السابح.
نقش جداري يبلغ عمره حوالي 1500 عام يصف الوحش..
ويعتبر أقدم دليل على وجود وحش يقطن بحيرة نس
أسطورة لوخ نس المعاصرة بدأت عام 1933 عندما تم رصف أول طريق شمالي شاطئ البحيرة، بدأت المشاهدات في أبريل تحديداً، عندما رأى "جون ماكي" -صاحب فندق "رمنادروشيت"- وزوجته وحشاً هائل الحجم يغطس ويطفو فوق سطح البحيرة، تلك الحادثة نشرت أيامها في جريدة (Inverness Courier) والتي استخدمت لفظة وحش
(Monster) لأول مرة للدلالة على ذلك المخلوق الذي يقطن البحيرة، وتعتبر تلك الحادثة هي بداية تحول وحش لوخ نِس إلى ظاهرة إعلامية.
بعد الحادثة المذكورة تحول لوخ نِس إلى هوس إعلامي، ففي شهر أكتوبر من نفس العام –1933– أصبحت إسكتلندا مقراً للصحفيين القادمين من لندن للبحث عن حقيقة الوحش، وكان هناك برنامج خاص بإذاعة لندن لمتابعة آخر مشاهدات الوحش أو أية معلومات عنه، وعرض سيرك "برايتون" الإنجليزي مبلغ 20،000 جنيه إسترليني (مبلغ شديد الفداحة عام 1933) لمن يقبض على الوحش، وسرعان ما امتلأت المنطقة حول بحيرة نس بالمستكشفين والمغامرين والعلماء الباحثين عن الوحش.
وصلت حمى البحث عن وحش لوخ نس إلى أقصاها في ديسمبر من نفس العام، حيث استأجرت صحيفة "الديلي ميل اللندنية" (London Daily Mail) ممثلاً ومخرجاً وصياداً محترفاً يدعى Marmaduke Wetherell لاصطياد الوحش، وبعد أيام معدودة علي شاطئ البحيرة أبلغ الصياد عن اكتشافه لآثار أقدام ضخمة لكائن ذي أربع أصابع قدر طوله بعشرين قدماً على الأقل، وقد صنع هذا الصياد قالباً من الجبس لأقدام الوحش وأرسله إلى متحف التاريخ الطبيعي بلندن لتحليلها، وأثناء انتظار نتيجة التحليل امتلأت فنادق البلدة بجحافل من الصيادين من مختلف أنحاء العالم، واكتظت الشوارع المحيطة بشاطئ البحيرة بالسيارات من الاتجاهين.
انفجرت فقاعة الحماس في يناير 1934، حيث أعلن علماء الحيوان المكلفون بدراسة آثار الأقدام أن تلك الآثار لفرس نهر، وأن تلك الآثار اصطناعية، ولم يعلم أحد من اصطنع تلك الآثار، هل هو الصياد Wetherell أم أنه كان –فقط– مخدوعاً كالجميع، ولا شك في أن هذا الاكتشاف قد أحبط جميع الباحثين عن الوحش، ومن ساعتها لم يعد العلماء يأخذون بأي دليل على وجود وحش ببحيرة نِس مأخذ الجد، وأخذت النظريات المعارضة لوجود الوحش في الظهور بقوة من تفسيرات بأوهام بصرية، أو أخشاب طافية على سطح البحيرة، أو أنواع من الأسماك ضخمة الحجم.
ثم جاء روبرت توماس جولد (R.T.Gould) ببعض المحاولات عن طريق مسح قناة كاليدونا بالموجات الصوتية (السونار) ليكتب ثاني أهم كتاب عن الوحش (The Loch Ness Monster and Others) عام 1934 والذي رصد فيه 51 رؤية للوحش مع تحليل تلك الرؤى لإثبات وجود الوحش.
من رأى الوحش:
بدأ البحث عن وحـــش لــوخ نِس يأخـــذ منحنى جـــاداً مـــرة أخـــرى في الخمســـينيات، عنــدما بــدأت طـــبـيـبة تــدعى "كونستانس وايت" (Constance Whyte) في تجميع شهود العيان ممن رأوا الوحش رأي العين لتجمعهم في كــتاب يعد أهــم ما كــتـب عن الوحــش عنوانه (More Than a Legend) اهتمت فيه بالدفاع عن مصداقية الناس ممن رأوا الوحش كما قالت في مقدمة كتابها.
بعد نشر "وايت لكتابها"، بدأت حملات البحث عن نيسي (Nessie) "اسم التدليل الذي يطلقونه على الوحش" بجدية أكبر، وكانت أول مرة لاستخدام السونار في تمشيط قاع البحيرة بانتظام، وبدأ البحث يزداد ثقلاً علمياً بانضمام جامعات من أعرق جامعات بريطانيا والعالم إلى البحث وهم "أكسفورد، كامبردج، برمنجهام"، وبدأت جهود العالم "وذرل" الذي جاء ومعه فريق كامل من الحركة الكشفية ليعسكروا على شاطئ البحيرة أياماً طويلة، ولكن محاولاتهم لم تأتِ بفائدة تذكر.
ومن الجدير بالذكر أن هناك العديد من المشاهدات للوحش منذ عام 1933 حتى الآن.. والعديد من الصور والأفلام التي لا تنفي ولا تؤكد وجوده بشكل قاطع وتجعل هناك مجالاً كبيرا للتشكيك في صحة الأسطورة بشكل عام.. ولكن أكثر الصور إثارة للجدل والتي التقطت لهذا الوحش عام 1934 تظهر رقبة لمخلوق ما على سطح البحيرة، وسرعان ما نشرت تلك الصورة في جريدة "الديلي ميل اللندنية" لتغدو أكبر دليل حتى وقتنا هذا على وجود الوحش.
صورة من الصفحة الرئيسية لجريدة الديلي ميل اللندنية التي نشرت – لأول مرة – صورة للوحش
ومـــا يـــــؤكد صــــــحة تــلك الصـــورة هو ملــــتقطها.. الجراح البريطاني (R. Kenneth Wilson) الذي كان يتمتع بسمعة محترمة في ذلك الوقت.. والذي التقط تلك الصورة عندما لاحظ اضطراباً في سطح البحيرة وهو في سيارته -حيث كان عائداً من رحلة لتصوير الطيور مع صديق له- على طريق البحيرة ليتوقف لرؤية ما يسبب هذا الاضطراب ليجد هذا الوحش يطل برقبته فوق سطح المياه فيلتقط له واحدة من أكثر الصور التي سببت جدلاً في عالمنا المعاصر.
أشهر صورة التقطت للوحش وأكثرها قابلية للتصديق
ولكن بعد 60 عاماً من التقاط تلك الصورة (تحديداً عام 1994) أخذت الصحف حول العالم في إثارة الجدل مرة أخرى حول "صورة الجراح" كما يسمونها.. وبدأ التشكيك في زيفها وأنها كانت مؤامرة محكمة للنصب على جريدة الديلي ميل اللندنية.. فقط ليكتشف الجميع الصورة الأصلية لدى (Maurice Chambers) صديق الجراح صاحب الصورة.. والذي أكد الشكوك بأن تلك ليست هي الصورة الأصلية وإنما هي مقصوصة، وقد تم اكتشاف وجود الصورة الأصلية التي تحوي نفس المشهد بشكل أكثر توسعاً في الثمانينيات.
الصورة الأصلية التي التقطها د.كينيث ويلسون عام 1934
وهناك أيضاً الاعتراف الذي قيل إن "إيان ويذرل" قد قاله قبل موته.. بأن سخرية الناس منه بعد محاولاته المضنية لإثبات وجود الوحش جعلته يصنع غواصة تبدو من الأعلى كالوحش تماماً وأنه قد توقع وجود د.ويلسون في ذلك الوقت بالذات مع صديقه الذي كان عنده "موريس تشامبرز" ليصوره ولتنجح خدعته إلى حد لم يكن يتوقعه، ولكن كعادة البت في أمر من أمور هذا الوحش، لا أحد يستطيع إثبات صحة هذا الاعتراف من عدمه.
وليست تلك هي المشاهدة الوحيدة بالطبع للوحش وإنما هي أكثر المشاهدات إثارة للجدل.. فهناك عدد ضخم من الصور والتسجيلات والمشاهدات العينية منذ عام 1933 حتى يومنا هذا.
وجدير بالذكر محاولة محطة الـBBC عام 2003 التي تضمنت مسحاً شاملاً للبحيرة بالسونار، وتقصيا لأقوال شهود العيان ممن رأوا الوحش أو ادعوا ذلك.. لتخرج بعنوان "ليس هناك شيء يدعى نيسي".. ولكن ذلك لم يكن ليحبط عزيمة المؤمنين بوجود الوحش.. أو من هم متأكدون من رؤيته رأي العين.
صورة نادرة يفترض أنها للوحش قرب قلعة إيركهارت..
ربما لا تكون قطعة خشب طافية رغم كل شيء
صورة التقطت في 14 أبريل 1933 بواسطة Alex Campbell صاحب حانة قرب البحيرة والذي وصف مشاهدته بأنه وحش هائل الحجم ذو رأس صغيرة، أفعواني الشكل، ذو حدبة كبيرة.
صورة بالسونار التقطت عام 1972 ضمن مسح شامل للبحيرة قام بها المركز الأمريكي للعلوم التطبيقية بقيادة د.روبرت رينز (Robert Rines).. تم تصويره قرب قاع البحيرة حيث قدر طول الوحش بحوالي ستة أقدام.