ختلف الباحثون
والدارسون العرب، قدامى ومحدثين، حول هذا الموضوع الشائك أي: أسبقية الشعر
والنثر، كما اختلفوا في المفاضلة بينهما، بل و حتى في الإقرار بوجود نثر
حقيقي قبل الإسلام يمكن أن نطمئن إلى صحة وجوده. فما وصلنا من خطب وأمثال
وحكم وأسجاع وأقوال مأثورة عن الجاهليين يعتبره البعض من الأدب المنحول
المدسوس.
ويمكن أن نجمل هذا الموضوع في رأيين متعارضين:
ـ الرأي
الأول: ويمثله الدكتور زكي مبارك ومن لف لفه في كتابه وأطروحته
المعروفة(النثر الفني في القرن الرابع ـ الهجري ـ)؛ ويذهب فيه إلى تأكيد
وجود نثر فني في العصر الجاهلي، له خصائصه وقيمه الأدبية والفنية، رغم ظروف
التبدي التي سببت في ضياع الجزء الأعظم منه، فقد نقل الجاحظ عن عبد الصمد
الرقاشي قوله: ( ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من
جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره)، البيان
والتبيين ج1 / ص 281
أما الدليل
الأقوى والأنصع الذي اعتمده واستند إليه في دعم حجته فهو القرآن الكريم؛
لأنه، في نطره، يقدم صورة عن شكل هذا النثر وحالته التي كان عليها قبل ظهور
الإسلام، وقبل عصر التدوين، فلا يعقل أن يخاطب القرآن قوما إلا بأسلوب
القول الشائع لديهم، كما أن التحدي والإعجاز الذي واجه به القرآن الكريم
العرب لا يكون إلا لمن بلغ منهم درجة معقولة من بلاغة القول، تمكنهم من
فهمه ومقارنته بفنون القول الشائعة لديهم؟!.
وفي رأيي
أنه إذا تأكدت صحة النصوص النثرية التي وصلتنا عن الجاهليين، على قلتها
بالقياس إلى ما وصلنا من شعرهم، كما جاء في الكلام الذي نقله الجاحظ عن عبد
الصمد الرقاشي، فمعنى هذا أن التزامن حاصل بين النوعين خلال مرحلة
الجاهلية كلها والتي يقدر عمرها بنحو قرن ونصف قبل البعثة النبوية، حسب
تحديد الجاحظ أيضا، ولا مجال للحديث هنا عن الأسبقية إلا إذا اكتشفت نصوص
نثرية جديدة لجاهلية أبعد في الزمن عن الجاهلية المتعارف عليها الآن، خاصة
وأن معظم هذه النصوص النثرية تنسب لأشخاص معمرين. وهم كانوا شعراء أصلا،
فعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة معدود ضمن خطباء العرب
المشهورين....
ـ أما الرأي
الثاني الذي ينفي وجود نثري فني في العصر الجاهلي فيمثله الدكتور طه حسين
ومن لف لفه أيضا، وهو المعروف بتشكيكه في صحة شعر الجاهليين قبل أن يشكك في
صحة وجود نثرهم.
وحجته في ذلك
أن الحياة الأولية البسيطة التي كان يحياها العرب قبل الإسلام لم تكن تسمح
لهم بقيام أي لون من ألوان النثر الذي لا يمكن أن ينشأ أو يزدهر إلا في ظل
حياة مستقرة تسمح بالروية والتفكير، والعرب الجاهليون، في نظره، بخلاف
ذلك؛ لأن حياتهم تقوم على الرحلة والنجعة؛ أي أنهم مشغولون بالبحث عن مصادر
الكلأ للرعي، وموارد الماء للارتواء.
وكأن التفكير عنده حكر على جنس من البشر دون جنس آخر، وعلى سلالة بشرية دون أخرى..!!!
وفي رأيي: إن
المقابلة بين النوعين الأدبيين: الشعر والنثر، سواء على مستوى الأسبقية،
أو الكمية أو الأهمية لا يمكن أن تقدم أو تؤخر شيئا من حقيقتهما الجوهرية
التي اهتدى إليها العرب قديما بقريحتهم الفذة، وبسلاسل اختباراتهم القاسية
في الحياة وفي الإصرار على الوجود، وهي وإن اختفت كثير من ملامحها المادية
من خلال الرواية والحفظ، أو من خلال النقش والخط ، كما عند غيرهم من الأمم،
فلا شك أنهم قد أودعوا جزء مهما من حقيقة حياتهم في نثرهم وشعرهم على حد
سواء. إذ كان جل اعتماد العرب على اللغة في الاحتفاظ بصورة حياتهم على شحها
وشظفها، بخلاف بعض الأمم القديمة التي كثيرا ما عولت على فنون أخرى غير
فنون القول، كالنحت والرسم والموسيقى والعمران وغير ذلك..
ولا يزال
أمام الباحثين مجهود ضخم لرسم صورة تلك الحياة العربية الحقيقية القديمة
في أذهان أجيالنا الحالية، وذلك من خلال استنطاق لغة الأدب العربي القديم
استنطاقا موضوعيا بعيدا عن الميل والهوى أو التنقيص.
ومما يؤسف
له حقا أن دارس الأدب العربي أنى اتجه في دراسته لهذا الأدب يجد نفسه
محاصرا بمجموعة من الشكوك والاتهامات: فالجاهلي منه غير أصيل ومنحول،
والإسلامي ضعيف، والعباسي مصنوع مزخرف بعيد عن نبض الحياة، والوسيط منحط
... وحتى تجربة (الحداثيين) التي ألغت المسافة نهائيا بين الشعر والنثر لم
تسلم هي الأخرى من حمى التخبط والفوضى والطموح المبالغ فيه أحيانا إلى
درجة الرغبة في إقبار كل ما هم قديم ومهترئ في نظرهم، ولا ضير عندهم إذا
تبنوا مرجعيات أجنبية، بل لا بأس في إلغاء الأبجدية العربية واسبتدالها
بأبجدية لاتينية، كما أراد سعيد عقل و بعض أنصار (القصيدة النثرية)، في
منتصف القرن الماضي.
إننا في
درسنا الأدبي نضيع كثيرا من الوقت في التنظير وطرح الإشكاليات والمزايدات
والمصادرات بدل التعود على مواجهة النصوص الأدبية العربية وقراءتها قراءة
مباشرة، قبل أن نقرأها في خلفياتها المسبقة... حتى لا يجرفنا الفراغ
والإعراض عن مواجهة النصوص القديمة بصدق واتزان إلى كثير من المنزلقات
الخطيرة.
باختصار شديد
علينا أولا أن نقرأ أدبنا قبل أن نقرأ ما حوله، أما منطقتا الشعر والنثر
فليستا معزولتين عن بعضهما كما قد يتوهم البعض، ولكل من الشاعر والأديب
كامل الحق والحرية في تجاوز منطقته إلى منطقة الآخر، ليس على وجه التقليد
الفج أو الهجوم المدمرالذي يلغي نقيضه، وإنما على وجه التكامل والتنافس
الشريف في اختبار الطاقة الإبداعية التي يتساوى فيها جميع الكتاب والشعراء،
والسلام.
كتبها عبد اللطيف المصدق