المقالة السابعة : هل الشعور بالأنا يتوقف على الغير ؟ جدلية
01 مقدمة : طرح المشكلة
من
المشاكل النفسية التي ظلت تؤرق الإنسان هي محاولة التعرف على الذات في
مختلف الصفات التي تخصها ؛ بحيث اتجه محور الاهتمام إلى تشكيل بنية الأنا
عبر الغير الذي بإمكانه مساعدته إلا أن ذلك
لم يكن في حال من الاتفاق بين الفلاسفة الذين انقسموا إلى نزعتين الأولى
تعتقد أن مشاركة الأخر أي الغير أضحت أمرا ضروريا والنزعة الثانية تؤكد على
وجوب أن يتشكل الأنا بمفرده عبر الشعور وأمام هذا الاختلاف في الطرح نقف
عند المشكلة التالية : هل الشعور بالأنا يتوقف على الغير ؟ وبعبارة أوضح
وأحسن هل الشعور بالأنا مرتبط بالأخر أم انه لا يتعدى الشخص؟
02 ومحاولة حل المشكلة
أ -الأطروحة :
الشعور بالأنا مرتبط بالغير ؛ يرى البعض أن الشعور بالأنا يرتبط بالغير
فلا وجود لفردية متميزة بل هناك شعور جماعي موحد ويقتضي ذلك وجود الأخر
والوعي به .
البرهنة :
يقدم أنصار الأطروحة مجموعة من البراهين تقوية لموقفهم الداعي إلى القول
بان الشعور بالأنا يكون بالغير هو انه لا مجال للحديث عن الأنا خارج الأخر
الذي
يقبل الأنا عبر التناقض والمغايرة ومن هنا يتكون شعور أساسه الأخر عبر ما
يسميه ديكارت بالعقل الذي بواسطته نستطيع التأليف بين دوافع الذات وطريقة
تحديد كيفيات الأشياء والأشخاص وفي هذا السياق يعتقد الفي
لسوف الألماني "هيغل " أن وجود الغير ضروري لوجود الوعي بالذات فعندما
أناقض غيري أتعرف على أناي وهذا عن طريق الاتصال به وهنا يحصل وعي الذات
وذات الغير في إطار من المخاطرة والصراع ومن هنا تتضح الصورة وهي أن الشعور
بالأنا يقوم مقابله شعور بالغير كما انه لابد للانا أن يعي الأخر إلا أن
الأخر ليس خصما ولا يتحول إلى شيء لابد من تدميره كما يعتقد البعض بل إلى
مجال ضروري الاهتداء إليه لبناء ذات قوية فقد تختلف الذوات وتتنوع رؤى
فكرية كثيرة ولكن لا يفسد ذلك ودا جماعيا وحتى وان استنطق الإنسان في نفسه
غرائز الموت والتدمير الطبيعية فان مفهوم الصراع يناسب مملكة الحيوانات
ومنطق قانون الغاب وهذا الأمر لا ينطبق على من خلقوا من اجل التعارف وليس
بعيدا عن الصواب القول بان وعي الذات لا يصبح قابلا للمعرفة إلا بفعل وجود
الأخر والتواصل معه في جو من التنافس والبروز ومن هنا يمكن التواصل مع
الغير ولقد كتب المفكر المغربي محمد عزيز لحبابي " إن معرفة الذات تكمن في
أن يرضى الشخص بذاته كما هو ضمن هذه العلاقة : "الأنا جزء من النحن في
العالم "
وبالتالي فالمغايرة تولد التقارب والتفاهم ويقول تعالى : " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض ل
فسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.
وهكذا فالشعور
بالأخر تسمح لنا بالمتوقع داخل شخصية الأخر والاتصال الحقيقي بالأخر كما
يرى ماكس شيلر يتمثل في التعاطف ومنه لا غنى للانا عن الغير .
النقد : يمكن الرد على هذه الأطروحة بالانتقادات التالية
إن
الشعور بالأنا يتأسس على الغير لكن الواقع يؤكد بأنه قد يكون عائقا وليس
محفزا لتكون ذات قوية فكل" أنا" يعيش مجالا خاصا وفي ذلك رغبة فردية وشخصية
.
ب - نقيض الأطروحة " الشعور
بالأنا شخصي ، يرى البعض الآخر أن الأنا يعيش مع ذاته ويحيا مشاريعه بنفسه
وبطريقة حرة أي كفرد حر وهذا الامتلاك يكون بمقدوره التعامل مع الواقع
بشكل منسجم .
البرهنة :
يقدم أنصار هذا النقيض جملة من البراهين في تأكيدهم على الشعور بالأنا على
انه شخصي ولا مجال لتدخل الغير الذي يعتبره أنصار النقيض بأنه عقبة لا بد
من تجاوزها ؛
ومن هذا المنطلق يؤكد الفيلسوف الفرنسي ماي
دوبيران على أن الشعور بالواقع ذاتي وكتب يقول : " قبل أي شعور بالشيء
فلابد من
أن الذات وجود " ومن مقولة الفيلسوف يتبين أن الوعي والشك والتأمل عوامل
أساسية في التعامل مع الذات ووعيها ولقد كان سارتر اصدق تعبيرا عندما قال "
الشعور هو دائما شعور بشيء
ولا يمكنه إلا أن يكون واعيا لذاته "
ومن هنا يتقدم الشعور كأساس للتعرف على الذات كقلعة داخلية حيث يعيش الأنا
داخل عالم شبيه بخشبة المسرح وتعي الذات ذاتها
عن طري ما يعرف
بالاستبطان فالشعور مؤسس للانا والذات الواعية بدورها تعرف أنها موجودة عن
طريق الحدس ويسمح لها ذلك بتمثيل ذاتها عقليا ويكون الحذر من وقوف الآخرين
وراء الأخطاء التي نقع فيها ولقد تساءل" أفلاطون"
قديما حول هذه
الحقيقة في أسطورة الكهف المعروفة أن ما يقدمه لنا وعينا ما هو إلا ظلال
وخلفها نختبئ حقيقتنا كموجودات " كما يحذر سبينوزا من الوهم الذي يغالط
الشعور الذي لابد أن يكون واضحا خاصة على مستوى سلطان الرغبات والشهوات ومن
هنا فقد الجحيم هم الآخرون على حد تعبير أنصار النقيض فيريد الأنا فرض
وجوده وإثباته
ويدعو فرويد إلى التحرر الشخصي من إكراهات
المجتمع للتعرف على قدرة الأنا في إتباع رغباته رغم أنها لا شعورية وهكذا
فألانا لا يكون أنا إلا إذا كان
حاضرا إزاء ذاته أي ذات عارفة .
النقد:
إن هذا النقيض ينطلق من تصور يؤكد دور الأنا في تأسيس ذاته ولكن من زاوية
أخرى نلاحظه قاصرا في إدراكها والتعرف عليها فليس في مقدور الأنا التحكم في
ذاته وتسييرها في جميع الأحوال ففي ذلك قصور.
التركيب :
من خلال لعرض الأطروحتين يتبين أن الأنا تكوين من الأخر كما انه شخصي هذا
التأليف يؤكد عليه الفيلسوف الفرنسي غابريال مارسيل عن طريق التواصل أي رسم
دائرة الانفراد دون العزلة عن الغير أي تشكيل للانا جماعي وفردي أي تنظيم
ثنائي يكون ذات شاعرة ومفكرة في نفس الوقت .
03 - حل المشكلة:يمكن
القول في الختام أن الشعور بالأنا يكون جماعيا عبر الأخر كما انه يرتبط
بالأنا انفراديا ومهما يكن فالتواصل الحقيقي بين الأنا والأخر يكون عن طريق
الإعجاب بالذات والعمل على تقويتها بإنتاج مشترك مع الغير الذي يمنحها
التحفيز والتواصل الأصيل وتجاوز المآسي والكوارث . داخل مجال من الاحترام
والتقدير والمحبة .
المقالة الثامنة :
الموضوع : قيل إن الحتمية أساس الحرية أثبت بالبرهان صحة هذه الأطروحة ؟ استقصاء بالوضع
طرح المشكلة: يقول
أحد الفلاسفة " أعطيني حلا لمشكلة الحرية أعطيك حلا لكل المشاكل الفلسفية "
إذا فربما هذه المقولة أكبر دليل يدفعنا إلى القول بأن الحرية من أعقد و
أقدم المشكلات الفلسفية فهي لها صلة مباشرة بما وراء الطبيعة ولقد شاع بين
بعض الفلاسفة من أنصار الحتمية أنه لا مجال للحديث عن الحرية في عالم تحكمه
مجموعة من الحتميات الصارمة إلا أن هناك من يعتقد عكس ذلك وهم فريق أنصار
التحرر الذين يروا أن التسليم بوجود الحتميات و إدراكها شرط لممارسة الحرية
فإلى أي مدى يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة ؟ وهل يمكن إثباتها بحجج ؟
وبالتالي الأخذ برأي مناصريها ؟
محاولة حل المشكلة
عرض منطق الأطروحة :
هذا الموقف الفلسفي يرفض الطرح الميتافيزيقي لمشكلة الحرية باعتبارها
مشكلة الإن
سان الذي يعيش في الواقع ويواجه جملة من الحتميات . وأول من ابتدأ الطرح
الواقعي لها الفيلسوف المسلم "ابن رشد " ( 1126 – 1198) ونزع التعارض
القائم بين الحرية والحتمية ؛ حيث قدم وجهة نظر جديرة بالاهتمام . فالإنسان
عنده حر حرية محدودة في حدود قدرته وعلمه ووعيه حيث يقول في هذا الصدد "
... أن الله تبارك و تعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي
أضداد . لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة
الأسباب التي سخرها الله من خارج وزوال العوائق عنها ، كانت الأفعال
المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا ..." ونفس الموقف نجده يتكرر مع
الفيلسوف الفرنسي بول فولكي عندما يقر أن الحرية والحتمية في واقع الأمر
متكاملتان والتحرر حسبه يقتضي معرفة القيود و الموانع و الحتميات التي
تعترضه .
المسلمات :
وقد اعتمد هذا الموقف على المسلمة التالية : أن الحتمية والحرية مفهومان
غير متناقضين – حسب الطرح الميتافيزيقي - وإنما الحتمية شرط ضروري لقيام
الحرية .
الحجج: المعتمدة في
هذا الطرح : نذكر منها الحجة الواقعية التي استخدمها بول فولكي في
إثبات علاقة التكامل بين الحتمية والحرية بل رأى أنه انعدام الحتمية يؤدي
إلى انعدام الحرية ؛ فعدم وجود قوانين تنظم السلوك الإنساني وتوجهه يؤدي
إلى الفوضى في السلوك يفقد من خلالها الإنسان حريته وقد قوى حجته بمثال
رائع حينما قال " إنه من السهل علينا أن نذهب حيث شئنا بسيارة لأن حركتها
مضبوطة ومدروسة بدقة سلفا ، ولكنه من الصعب أن نستعمل الحصان لأن حركاته
كثيرا ما تكون عفوية . وهناك حجة تاريخية تؤكد هذا الطرح : و هو أن الإنسان
عندما تعرف كيف يقرأ مجهولات الطبيعة عن طريق العلوم الطبيعية خاصة استطاع
بها الكائن البشري أن يتحرر من مجموعة من القيود هذا الذي جعل "مونيي " (
1905 – 1950) يقول : " إن كل حتمية جديدة يكتشفها العالم تعد نوطة تضاف إلى
سلم أنغام حريتنا " .
خصوم الأطروحة ونقدهم :
يرى هذا الاتجاه أنه من التناقض الجمع بين الحرية والحتمية في آن واحد .
فحسب هذا الموقف إما أن تكون الحرية كمفهوم مطلق موجودة [من دون أي إكراه
خارجي أو داخلي وبما الإنسان كائن عقلاني كما يؤكد أهل إثبات الحرية بدلالة
شهادة الشعور تارة حسب "ديكارت " ( 1596 – 1650) " مين يبيران " ( 1766 –
1824 )
و برغسون ( 1859 – 1941 ) حيث يعتبرها هذا الأخير إحدى مسلمات الشعور والتي
ندركها بالحدس ، إنها حسبه ذلك الفعل الذي يتبع من الديمومة أو الأنا
العميق أما سارتر ( 1905 – 1980 ) أن الحرية هي جوهر الوجود الإنساني وتارة
أخرى يعتمد هذا الاتجاه باسم الحجة الأخلاقية بدعوى مشروعية التكليف ففريق
المعتزلة يرى أنه يطلب من المكلف إما الترك أو الفعل و يؤكد على نفس
الموقف الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط "( 1724 – 1804 ) حيث يقول " إذا
كان يجب عليك فإنك تستطيع " بالإضافة إلى ذلك الحجة الاجتماعية والحجة
الميتافيزيقية التي تثبت وجود الحرية ] وإما أن تكون الحرية غير موجودة
بمفهوم مطلق أي توجد الحتمية التي تنفيها و يمثل هذه الفكرة " أهل النفي "
وهم أنصار الميتافيزيقا الإسلامية ( يمثلها جهم بن صفوان المتوفي سنة 128 ه
الذي يرى أن الإنسان مسير بإرادة الله ) في العصور الوسطى وامتداداتها إلى
العصر الحديث مع موقف سبينوزا (1632 - 1677) الذي يقول بموقف الضرورة
الإلهية. وكذلك نجد أنصار النزعة العلمية الحديثة الذين يقرون بأن الإنسان
محفوف بمجموعة من الحتميات تمنعه أن يكون حرا حرية مطلقة وقد عددوها بين
حتميات ؛ فيزيائية ( أفعال وأفكار الإ
نسان تنطبق عليها قوانين الحتمية مثل انطباقها على الظواهر الفيزيائية
والكيميائية ) و حتمية بيولوجية ( يرتبط سلوك الإنسان بمكوناته البيولوجية
التي تفرض عليه السلوكات التي يفعلها لهذا فهو يتصرف إلا في حدود هذه
المكونات يقو العالم الإيطالي لومبرزو " أن المجرمين ليسوا مجرمين بإرادتهم
وإنما الطبيعة البيولوجية هي التي أجبرتهم على ذلك " ) وحتمية نفسية ( ترى
أن السلوك الإنساني مرتبط بالمجريات النفسية تأتي إما في شكل منبهات
طبيعية واصطناعية حسب واطسن ( 1856 – 1939 ) أو تأتي على شكل مكبوتات
لاشعورية يستطاع أن يتنبأ بها حسب فرويد و في كلتا الموقفين الإنسان هو
محتم أن يعمل وفق هذه الضغوطات كلها وهذا يأخذنا إلى نوع أخير من الحتميات
وهو الحتمية الاجتماعية ( ترى أن أفعال الإنسان الفردية إذا لم تلتزم
بقواعد المجتمع التي تسير حياته مهما بلغت طموحاته فلا يجب على الإنسان أن
يتجاوزها مثل ما يؤكد عليها دوركايم ( 1858 – 1917 ) ) وبعد أن عرضنا كل
موقف الخصوم ورغم حججه الدامغة نجد أنه يتعرض إلى عدة انتقادات نكرها فيما
يلي :
- نفي الحرية بحجة وجود الحتميات الداخلية و الخارجية ،
دعوة إلى السلبية والخضوع والاستسلام وهذا الذي
كان حاصلا فعلا في العالمين سواء الإسلامي في أواخر سقوط نهضته عندما لم
يستمع لأفكار ابن رشد وانصاع لفكرة الحتمية ، أما العالم الغربي فقد نام
طيلة العصور الوسطى بفكرة الحتمية المسيحية التي شللت عقول وجهود الإنسان
الغربي .
- الإنسان يملك قوى كالعقل و الإرادة و الشعور تمكنه من إدراك الحتميات وتسخيرها لخدمة مصالحه
-
الحرية ليست مشكلة للتأمل الميتافيزيقي بقدر ما هي مشكلة الإنسان وسلاحه
لمواجهة كل أشكال الضغط . فعلى الفلسفة أن تواكب طموحات الإنسان لا أن
تسكنه في معراج الأحلام الوهمية البعيدة عن التصور ولو تجسد للحظة وهم
الحرية المطلقة.
- و ابرز من جسد الفعل النقدي للطرح
الميتافيزيقي الفيلسوف كارل ماركس ( 1811 – 1883 ) الذي فضل تغيير العالم
بدعوته إلى التحرر أحسن من تفسير العالم كما تعكف الفلسفة على فعله الآن .
ولذلك أدرج التيار التقليدي الذي يطرح الحرية طرحا ميتافيزيقيا ضمن
التيارات الرجعية الرافضة للتقدم الأمر الذي ساعد على تأسيس فكرا جديدا
يمثله التيار التقدمي التنموي في مواجهة الثابت والستاتيكي .
الدفاع عن الأطروحة بحجج شخصية شكلا ومضمونا :
إن الأطروحة القائلة
بأن الحتمية أساس الحرية نستطيع الدفاع عنها و إثباتها بحجج و أدلة جديدة تتمثل فيما يلي :
أما
الحجة الأولى تقول أنه كل دعوة إلى ممارسة الحرية خارج إطار القوانين دعوة
إلى الفوضى و التمرد واللامبالاة فلو تركت الأجرام السماوية من دون نظام
وقوانين لاختلطت وتصادمت يبعضها البعض ونفس المقياس نقيس به الإنسان فبقدر
بحثه عن الحرية بقدر حاجته إلى قوانين تنظم حياته فها هانا حقا سيحصل
التوازن لا محالة . أما الحجة الثانية فتقول أن الكائن البشري يسري في طريق
تحرر كلما بذل من جهد عن طريق العمل مثل ما أكده الفيلسوف هيجل ( 1770 –
1831) واعتبره منبع للحرية كما بينه في جدليته الشهيرة " جدلية السيد
والعبد " حيث تحول العبد بفضل العمل إلى سيد على الطبيعة و سيد سيده ، أما
السيد فهو عبد للطبيعة وعبد لعبده لارتباطه بعبده في تلبية حاجياته . أما
الحجة الثالثة قائمة على دور العلم في كشف القوانين التي تعتبر قيود تنتظر
الفك نحو تحرر الإنسان منها . فقد سجل الإنسان حسب الاستقراءات التاريخية
قفزات هائلة في حلقات الانتصار على الطبيعة وظواهرها ( الفيضانات ،
البراكين ، الأمراض ...) أنظروا معي في المقابل (أنشئت السدود ، أخليت
المناطق ال
بركانية ، اكتشفت كل أنواع المضادات ضد أفتك الأمراض مثل داء الكلب كان
يشكل حتمية مخيفة على الإنسانية في فترة من الفترات إلى أن جاءت مضادات
باستور وحررت الإنسان من قيد الموت المؤكد...) و نفس الحال يتكرر كلما
اشتدت الحمية خناقا على الإنسان جاء العلم ليحل ويطلق سراح الإنسان من خوفه
وحيرته . كما أننا يجب أن ننتبه أن إنسان اليوم صار أكثر حرية من إنسان
الماضي لأنه أكثر اكتشافا للحتميات فبفضل قوانين الأثير أصبح العالم عبارة
عن قرية صغيرة على حد قول عالم الاجتماع الكندي ماك لوهان وصولا إلى فضاء
الانترنت و إلى كل أنواع التقدم الحاصل إلى حد كتابة هذه المقالة ، ضف إلى
ما توصل إليه الإنسان في معرفة القوانين النفسية التي مكنت الإنسان من
التحرر من نقائص الطبع ومختلف الميول والرغبات والعقد النفسية المختلفة ،
أما في الجانب الاجتماعي فلقد استطاع علماء الاجتماع أن يحصوا الظواهر التي
تؤذي المجتمعات الإنسانية فقاموا بتقليص كل المشاكل التي تهدد انهياراتها
مثال حي أنظر سياسة تعامل المجتمعات الغربية مع ظاهرة التدخين أو ظاهرة
المخدرات من أجل تقليص أعدادهم وتضمن السلامة الكافية لراسمي مستقبلها .
وقس على ذلك كل الممارسات السياسية و ال
اقتصادية في ظل عملية التأثر والتأثير بين الفرد ومجتمعه في مسائل الالتزام
بالقوانين والشعور بالتكليف والمسؤولية وفي نفس الوقت المطالبة بكل أنواع
الحقوق و في جميع المجالات .
حل المشكلة : وبعد
أن صلنا وجلنا في غمار هذه الأطروحة نؤكد على مشروعية الدفاع و الإثبات
لأنه يظهر لنا أن القول بأن الحتمية أساس الحرية أمر أكده العلم وأثبت
تاريخ العلوم و الاكتشافات و كل الاختراعات ذلك ومنه نخلص إلى أنه كلما
زادت وتطورت معارف الإنسان كلما اتسعت دائرة الحرية . وعليه نكثر من تكرار
قول لا بد من معرفة الحتميات و القوانين شرط لممارسة الحرية و التأكيد على
الطابع العملي لمشكلة الحرية لا يستبعد الجانب الفكري الذي يتمثل في الوعي
بالأهداف و الغايات و الأبعاد لفعل التحرر . فنحن نعيش في وقتنا الحاضر
لحظة رعب من إفلونزا الخنازير جعل من منظمة الصحة العالمية أن تدق ناقوس
الخطر بل جعلت المرض في الدرجة الخامسة لكننا متأكدين أن العلم لن يقبع
متفرجا أمام هذا المرض لأن الإنسان مرتبط دائما بآية قرآنية "وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا " وهي كونية بالنسبة لأي إنسان شد الرحال إلى أن يكتشف
ألغاز الطبيعة
وهذا ما يؤكد فعلا صحة أطروحتنا .
المقالة التاسعة : إذا كان العقليون يرجعون المفاهيم الرياضية إلى العقل و التجريبيون إلى التجربة .
فكيف يمكن تهذيب هذا التناقض ؟ جدلية
1- طرح المشكلة:
لقد أولع الإنسان منذ الزمن الغابر على طلب الحقيقة بكل أصنافها ؛ منها
النمط الفلسفي و النمط العلمي و أعظمها شأنا النمط الرياضي ، الذي واكب كل
تطورات الإنسان عبر العصور و ميز أعظم الحضارات بقوتها المادية ، لكن
التفكير الفلسفي - سيد المعارف في العصور القديمة و العصور الوسطى – اهتم
بالمعرفة الرياضية اهتماما تعلق بمناهجها ، بمنطلقاتها ، و قبله تساءل حول
نشأتها ؛ فانقسم المفكرون في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية إلى نزعتين ،
نزعة عقلية أو مثالية يرى أصحابها أن المفاهيم الرياضية من ابتكار العقل
دون التجربة ، ونزعة تجريبية أو حسي
ة يذهب أنصارها إلى أن المفاهيم الرياضية مهما بلغت من التجريد العقلي ،
فإنها ليست من العقل في شيء ، بل يكتسبها الإنسان عن طريق تجاربه الحسية .
فما حقيقة الأمر؟ فهل المفاهيم الرياضية في نموها انبثقت من التجربة أم من
العقل ؟ أي الفريقين على صواب ؟
2 –محاولة حل المشكلة :
1 - الأطروحة والبرهنة عليها:
إن المفاهيم الرياضية ، فيما يرى الموقف العقلي أو المثالي ، نابعة من
العقل و موجودة فيه قبليا ، أي بمعزل عن كل تجربة . فهي توجد في العقل قبل
الحس أي أن العقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن
من تصور مفاهيمه
- ودليلهم على ذلك أننا إذا تصفحنا تلك
المعرفة وجدناها تتصف بمميزات منها ، المطلقية و الضرورة والكلية ، وهي
مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية، وتتعذر في غيرها من العلوم التي
تنسب إلى التجربة و لقد وقف للدفاع عن هذا الرأي عدد من الفلاسفة من العصر
القديم إلى العصر الحديث أمثال أفلاطون و ديكارت وإيمانويل كانط نذكر
مواقفهم فيما يلي :
أ : نجد التفسير المثالي القديم مع الفيلسوف
اليوناني
أفلاطون الذي أعطى السبق للعقل الذي – بحسبه - كان يحيا في عالم المثل ،
وكان على علم بسائر الحقائق ، ومنها المعطيات الرياضية الأولية التي هي
أزلية وثابتة مثل المستقيم و الدائرة و التعريف الرياضي و يقول في هذا
الصدد " الدائرة هي الشكل الذي تكون جميع أبعاده متساوية عن المركز "
ب
: أما الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت يرى أن المعاني الرياضية من أعداد و
أشكال رياضية هي أفكار فطرية مثل فكرة الله و ما يلقيه الله في الإنسان من
مفاهيم لا يجوز فيه الخطأ . و ديكارت قبل أن يصل إلى رسم منهجه المعرفي و
اكتشافه لفكرة الكوجيتو كان قد شك في كل المعارف التي تلقاها من قبل إلا
المعاني الرياضية التي وجدها تتميز بالبداهة والوضوح وعلى منوالها فيما بعد
بنى نظرتيه المعرفية مؤسسا للمذهب العقلي .
ج : أما زعيم
الفلسفة النقدية الفيلسوف الألماني كانط يعتبر أن المكان و الزمان مفهومان
مجردان سابقان لكل تجربة و لا يمكن للمعرفة أن تتم إذا لم تنتظم داخل إطار
الزمان والمكان القبليان
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية مجردة فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات الحسية
و إلا كيف يمكننا أن نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة والحساب لدى شعوب الحضارات الشرقية القديمة .
2 - نقيض الأطروحة والبرهنة:إن
المفاهيم الرياضية مثل جميع معارفنا فيما يراه الحسيون و التجريبيون أمثال
جون لوك و دافيد هيوم و جون ستيوارت مل لم ترد على الإنسان من أي جهة أخرى
غير العالم الواقعي الحسي أو التجريبي فهو مصدر اليقيني للمعرفة ،
وبالتالي لجميع الأفكار و المبادئ ، و أن كل معرفة عقلية هي صدى لإدركاتنا
الحسية عن هذا الواقع ، و على هذا الأساس تصبح التجربة المصدر اليقيني لكل
معارفنا ، و أنها هي التي تخط سطورها على العقل الذي هو شبيه بالصفحة
البيضاء ، و ليس ثمة في ذهنه معارف عقلية قبلية مستقلة عما تمده لنا الخبرة
وتلقنه له الممارسات و التجارب ، و في هذا يقولون " لا يوجد شيء في الذهن
ما لم يوجد من قبل في التجربة " و أدلتهم كثيرة نبينها فيما يلي :
أ
: فمن يولد فاقد للحاسة فيما يقول هيوم ، لا يمكنه بالتالي أن يعرف ما كان
يترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة من أفكار . فالمكفوف لا يعرف ما
اللون و الأصم لا يعرف ما الصوت . أما مل يرى أن المعاني الرياضية مثل
النقاط و
الخطوط و الدوائر " مجرد نسخ " جزئية للأشياء المعطاة في التجربة الموضوعية
. و لهذا ، فإن الرياضيات تعتبر عند مل و غيره من الوضعيين المعاصرين علم
الملاحظة
ب : توجد شواهد أخرى تؤيد موقف التجربين منها أصحاب
علم النفس و أصحاب علم التاريخ . فالطفل في نظر علماء النفس في مقتبل عمره
يدرك العدد مثلا ، كصفة للأشياء و أن الرجل البدائي لا يفصله عن المعدود ،
إذ نراه يستخدم لكل نوع من الأشياء مسميات خاصة ، و أكثر من ذلك فلقد
استعان عبر التاريخ عن العد بالحصى و بالعيدان و بأصابع اليدين و الرجلين و
غيرهما و هذا ما يدل على النشأة الحسية و التجريبية للمفاهيم الرياضية
بالنسبة للأطفال و البدائيين لا تفارق المجال الإدراكي الحسي و كأنها صفة
ملابسة للشيء المدرك . و أكد الدارسين لتاريخ العلم أن الرياضيات قبل أن
تصبح معرفة عقلية مجردة قطعت مرحلة كلها تجريبية فالهندسة ارتبطت بالبناء
والتصاميم و تقدير مساحات الحقول و الحساب ارتبط بعد الأشياء فقط من أجل
تحديد القيمة . الجمع و الطرح و القسمة و الضرب و هذا ما نجده عند الفراعنة
و البابليين .
النقد :
لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضي
ة محسوسة و تجريبية فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات العقلية
التجريدية و إلا كيف يمكننا أن نفسر المطلقية في الرياضيات " الرياضيات
تكون صحيحة متى ابتعدت عن الواقع " و تأثيرها على جميع العلوم إلى درجة
أصبحت معيار كل العلوم .
3- التركيب : المفاهيم
الرياضية وليدة العقل و التجربة معا ، نجد أن المهذبين المتعارضين في
تفسير نشأة المفاهيم الرياضية قد فصلوا تماما بين العقل و التجربة ، رغم أن
تاريخ الرياضيات يبين لنا أن المعاني الرياضية لا يمكن اعتبارها أشياء
محسوسة كلها ، و لا مفاهيم معقولة خالصة ، بل يمكن أن يتكاملا معا لتفسر
نشأة المعاني الرياضية ، لأن هذه المعاني لم تنشأ دفعة واحدة ، بل نمت و
تطورت بالتدرج عبر الزمن ، فقد بدأت المفاهيم حسية تجريبية في أول أمرها ،
ثم تطورت و أصبحت مفاهيم استنتاجية مجردة ، بل تعبر عن أعلى مراتب التجريد ،
باستعمال الصفر ، الأعداد الخيالية ، و المركبة ، و المنحنيات التي لا
مماس لها ...لهذا قال " بياجي " : " إن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا ، و
أن التجربة ضرورية لعملية التشكيل و التجريد " .
3 -حل المش
كلة : و عليه يمكن القول : إن الرياضيات هي عالم العقل و
التجريد ، و ليس هناك حد يقف أمام العقل في ابتكار المعاني الرياضية ، و
في الكشف عن العلاقات ، و توظيفاتها ، و هي حرية لا يحدها سوى أمر واحد هو
الوقوع في التناقض . و هذا ما يؤدي إلى الخطأ أو فساد النسق الاستدلالي .
المقالة العاشرة : فندالأطروحة القائلة : " المعاني الرياضية فطرية وبالتالي مصدرها العقل " استقصاء بالرفع
1 ←طرح المشكلة :
إذا
كان الإنسان يتفوق على بقية الكائنات بالعقل ، وبواسطته يستطيع التفكير ،
وهذا الأخير ، هو أنواع ، تفكير فلسفي و تفكير علمي وتفكير رياضي وموضوعه
الرياضيات وهي مجموعة من المفاهيم العقلية المجردة ، وبالتالي فهي تدرس
المقادير الكمية القابلة للقياس ، ومنهجها استنتاجي عقلي لأن الرياضي ينتقل
من مبادئ عامة كالبديهيات ثم يستنتج نظريات خاصة تكون صحيحة ، إذا لم
تتعارض
مع تلك المقدمات ، ولقد شاع لدى الفلاسفة أن أصل المفاهيم الرياضية عقلي
وبالتالي فهي فطرية يولد الإنسان وهو مزود بها ، إلا أن هذه الأطروحة فيها
كثير من المبالغة والخطأ ، وهذا النقص حاول أن يظهره خصومهم من الفلاسفة
الذين أرجعوا أصلها للتجربة وبالتالي فهي مركزية وهذا الذي يدفعنا إلى الشك
في صدق أطروحة " المعاني الرياضية فطرية وبالتالي مصدرها العقل " فكيف
يمكن أن رفض هذه الأطروحة ؟ أو بعبارة أخرى إلى أي حد يمكن تفنيد الرأي
القائل بأن نشأة الرياضيات كانت عقلية ؟
2 ← محاولة حل المشكلة :
أ - منطق الأطروحة إن
المنطق هذه الأطروحة يدور حول نشأة الرياضيات ، حيث يرى بعض الفلاسفة
وخاصة أفلاطون و ديكارت بأن المعاني الرياضية أصلها عقلي أي نابعة من العقل
وموجودة فيه قبليا بعيدة عن كل تجربة حسية .
المسلمات :
وقد اعتمدوا على مسلمات أهمها : - لا يمكن أن تكون التجربة هي مصدر
الرياضيات أي أنهم نفوا بأن تكون المعاني الرياضية مكتسبة عن طريق الملاحظة
الحسية .
الحج
ج : الحجة الأولى تتمثل في أنهم أكدوا بأن هناك اختلاف
في المفاهيم الرياضية كالمكان الهندسي ، و اللانهايات ، والدوال والكسور و
الأعداد ... والطبيعة التي لا تحتوي على هذه الموضوعات الرياضية المجردة ،
مثال ذلك فالنقطة الهندسية التي لا تحتوي على ارتفاع ولا على طول ولا على
عرض فهي تختلف عن النقطة الحسية التي تشغل حيزا ونفس الشيء بالنسبة
للمفاهيم الأخرى. أما الحجة الثانية فقد أكدها الفيلسوف اليوناني أفلاطون
حيث يعتقد بأن المعاني الرياضية مصدرها العقل الذي كان يحي في عالم المثل ،
وكان على علم بكافة الحقائق بما فيها المعاني الرياضية كالخطوط و الأشكال و
الأعداد ، حيث تتصف بأنها واحدة و ثابتة ، وما على الإنسان في هذا العالم
الحسي إلا بتذكرها ويدركها العقل بوحده . و نأتي على الحجة الأخيرة التي
جاء بها الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أن المفاهيم الرياضية من أعداد
وأشكال هي أفكار فطرية و تتصف بالبداهة و اليقين ، فمفهوم اللانهاية لا
يمكن أن يكون مكتسبا من التجربة الحسية لأن التجربة متناهية .
ب – نقد أنصار الأطروحة
إن هذه الأطروحة لها مناصرين وهم أصحاب المذهب الع
قلاني و المذهب المثالي عموما وخاصة كانط الذين فسروا الرياضيات تفسيرا
عقليا و هذا بإرجاعها إلى المبادئ العقلية التي يولد الإنسان و هو مزود بها
حيث يعتقد كانط بأن الزمان و المكان و هما مفهومان رياضيان ، وبالتالي
صورتان قبليتان فطريتان ، والدليل على ذلك أن المكان التجريبي له سمك
ومحدود ، بينما المكان الرياضي مستوي و غير متناهي .... لكن موقف هؤلاء
المناصرين تعرض لعدة انتقادات نظرا لأنه ينطوي على نقائص أهمها :
-
لو كانت المفاهيم الرياضية فطرية كما يدعي هؤلاء الفلاسفة لوجدناها عند
الطفل الصغير بطابعها المجرد ، لكن الواقع يؤكد أن الطفل لا يفهم المعاني
الرياضية إلا إذا استعان بأشياء محسوسة كالأصابع و الخشيبات ...كما انه لو
كانت هذه المفاهيم فطرية في عقل الإنسان ، فلماذا لا يأتي بها دفعة واحدة ؟
مع العلم أن هذه المعاني تتطور الرياضيات عبر العصور التاريخية وهذا بظهور
ما يعرف بالهندسة اللاإقليدية المعاصرة التي تختلف عن الهندسة الكلاسيكية
الإقليدية و هذا يدل على أن العقل لا يعتبر المصدر الوحيد لها .
إن هذه الانتقادات الموجهة لأنصار الأطروحة هي التي تدفعنا إلى البحث عن حجج و أدلة أخرى للإكثار من إبطال
ها ودحضها .
ج – إبطال الأطروحة بحجج شخصية شكلا و مضمونا :
إن أنصار النظرية العقلية المثالية قد تطرفوا و بالغوا في تفسيرهم لنشأة
الرياضيات بتركيزهم على العقل وحده ، بينما هو عاجز عن إدراك هذه المعاني
الرياضية أحيانا ، و أهملوا دور الملاحظة الحسية التي تساهم بدورها في وجود
هذه المفاهيم ،، وهذا ما أكده أنصار النظرية التجريبية و المذهب التجريبي
عموما و خاصة جون ستيوارت مل الذين يعتقدون بأن الرياضيات مكتسبة عن طريق
تجربة الحسية بدليل الاستقراء التاريخي يؤكد بأن تجربة مسح الأراضي كما
مارسها قدماء المصريين قد ساعدت على نشوء ما يعرف بالهندسة . كما أن الواقع
يؤكد بأن الطبيعة تنطوي على أشكال هندسية بدليل قرص الشمس يوحي لنا
بالدائرة ، والجبل بالمثلث لهذا يقول مل " إن النقط والخطوط و الدوائر
الموجودة في أذهاننا هي مجرد نسخ للنقط و الخطوط و الدوائر التي نراها في
تجربتنا الحسية ... "
حل المشكلة: إذن
نستنتج بأن الأطروحة : " إن المفاهيم الرياضية فطرية و بالتالي مصدرها
العقل " ، باطلة و بالتالي لا يمكن الأخذ برأي مناصريها لأن الواقع
و التاريخ يؤكدان بأن المفاهيم الرياضية نشأت نشأة تجريبية ثم تطورت فيما
بعد إلى مفاهيم عقلية مجردة ، لهذا فهذه الأطروحة فاسدة بحجج كافية .
المقالة الحادية عشر : يقول هنري بوانكاريه : « إن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن ... » دافع عن هذه أطروحة استقصاء بالوضع
طرح المشكلة : إن
الفرضية هي تلك الفكرة المسبقة التي توحي بها الملاحظة للعالم ، فتكون
بمثابة خطوة تمهيدية لوضع القانون العلمي ، أي الفكرة المؤقتة التي يسترشد
بها المجرب في إقامته للتجربة . ولقد كان شائعا بين الفلاسفة والعلماء من
أصحاب النزعة التجريبية أنه لم يبق للفرضية دور في البحث التجريبي إلا أنه
ثمة موقف آخر يناقض ذلك متمثلا في موقف النزعة العقلية التي تؤكد على
فعالية الفرضية و أنه لا يمكن الاستغناء عنها لهذا كان لزاما علينا أن
نتساءل كيف يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة؟ هل يمكن تأكيدها بأدلة قوية ؟ و
بالتالي تبني موقف أنصارها ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض منطق الأطروحة :يذهب
أنصار الاتجاه العقلي إلى أن الفرضية كفكرة تسبق التجربة أمر ضروري في
البحث التجريبي ومن أهم المناصرين للفرضية كخطوة تمهيدية في المنهج
التجريبي الفيلسوف الفرنسي كلود برنار ( 1813 – 1878 ) و هو يصرح بقوله
عنها « ينبغي بالضرورة أن نقوم بالتجريب مع الفكرة المتكونة من قبل» ويقول
في موضع أخر « الفكرة هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع و إليها ترجع كل مبادرة »
وبالتالي نجد كلود برنار يعتبر الفرض العلمي خطوة من الخطوات الهامة في
المنهج التجريبي إذ يصرح « إن الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى
التجربة وتحكمها والتجربة تحكم بدورها على الفكرة »
المسلمات والبرهنة :
أما المسلمة المعتمدة في هذه الأطروحة هو أن " الإنسان يميل بطبعه إلى
التفسير و التساؤل كلما شاهد ظاهرة غير عادية " وهو في هذا الصدد يقدم أحسن
مثال يؤكد فيه عن قيمة الفرضية و ذلك في حديثه عن العالم التجريبي "
فرانسوا هوبير" ، وهو يقول أن هذا العالم العظيم على الرغم من أنه كان أعمى
فإنه ترك لنا تجارب رائعة كا
ن يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجربها ،، ولم تكن عند خادمه هذا أي فكرة
علمية ، فكان هوبير العقل الموجه الذي يقيم التجربة لكنه كان مضطرا إلى
استعارة حواس غيره وكان الخادم يمثل الحواس السلبية التي تطبع العقل لتحقيق
التجربة المقامة من أجل فكرة مسبقة . و بهذا المثال نكون قد أعطينا أكبر
دليل على وجوب الفرضية وهي حجة منطقية تبين لنا أنه لا يمكن أن نتصور في
تفسير الظواهر عدم وجود أفكار مسبقة و التي سنتأكد على صحتها أو خطئها بعد
القيام بالتجربة .
خصوم الأطروحة : هذه
الأطروحة لها خصوم وهم أنصار الفلسفة التجريبية و الذين يقرون بأن الحقيقة
موجودة في الطبيعة و الوصول إليها لا يأتي إلا عن طريق الحواس أي أن الذهن
غير قادر على أن يقودنا إلى حقيقة علمية . والفروض جزء من التخمينات
العقلية لهذا نجد هذا الاتجاه يحاربها بكل شدة ؛ حيث نجد على رأس هؤلاء
الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل ( 1806 - 1873 ) الذي يقول فيها « إن
الفرضية قفزة في المجهول وطريق نحو التخمين ، ولهذا يجب علينا أن نتجاوز
هذا العائق وننتقل مباشرة من الملاحظة إلى التجربة »وقد وضع من أجل ذلك
قواعد سماها بقواعد الاستقر
اء متمثلة في : ( قاعدة الاتفاق أو التلازم في الحضور _ قاعدة الاختلاف أو
التلازم في الغياب – قاعدة البواقي – قاعدة التلازم في التغير أو التغير
النسبي ) وهذه القواعد حسب " مل " تغني البحث العلمي عن الفروض العلمية .
ومنه فالفرضية حسب النزعة التجريبية تبعد المسار العلمي عن منهجه الدقيق
لاعتمادها على الخيال والتخمين المعرض للشك في النتائج – لأنها تشكل الخطوة
الأولى لتأسيس القانون العلمي بعد أن تحقق بالتجربة – هذا الذي دفع من قبل
العالم نيوتن يصرح ب : « أنا لا أصطنع الفروض » كما نجد "ما جندي" يرد على
تلميذه كلود برنار : «اترك عباءتك ، و خيالك عند باب المخبر » .
نقد منطقهم :
أما عن التعرض للإطار العقلي للفرض العلمي ؛ فالنزعة التجريبية قبلت
المنهج الاستقرائي وقواعده لكنها تناست أن هذه المصادر هي نفسها من صنع
العقل مثلها مثل الفرض أليس من التناقض أن نرفض هذا ونقبل بذاك .
-
كما أننا لو استغنينا عن مشروع الافتراض للحقيقة العلمية علينا أن نتخلى
أيضا عن خطوة القانون العلمي – هو مرحلة تأتي بعد التجربة للتحقق من
الفرضية العلمية - المرحلة الضرورية لتحرير القواعد العل
مية فكلاهما – الفرض ، القانون العلمي – مصدران عقليان ضروريان في البحث
العلمي عدمهما في المنهج التجريبي بتر لكل الحقيقة العلمية .
-
كما أن عقل العالم أثناء البحث ينبغي أن يكون فعالا ، وهو ما تغفله قواعد
"جون ستيوارت مل "التي تهمل العقل و نشاطه في البحث رغم أنه الأداة
الحقيقية لكشف العلاقات بين الظواهر عن طريق وضع الفروض ، فدور الفرض يكمن
في تخيل ما لا يظهر بشكل محسوس .
- كما أننا يجب أن نرد على "جون
ستيوارت مل" بقولنا أنه إذا أردنا أن ننطلق من الملاحظة إلى التجربة
بالقفز وتجاهل الفرضية فنحن مضطرين لتحليل الملاحظة المجهزة تحليلا عقليا و
خاصة إذا كان هذا التحليل متعلق بعالم يتصف بالروح العلمية . يستطيع بها
أن يتجاوز تخميناته الخاطئة ويصل إلى تأسيس أصيل لنظريته العلمية مستعملا
الفرض العلمي لا متجاوزا له .
- أما" نيوتن " ( 1642 – 1727 )لم
يقم برفض كل أنواع الفرضيات بل قام برفض نوع واحد وهو المتعلق بالافتراضات
ذات الطرح الميتافيزيقي ، أما الواقعية منها سواء كانت علية ، وصفية ، أو
صورية فهي في رأيه ضرورية للوصول إلى الحقيقة . فهو نفسه استخدم الفرض
العلمي في أبحاثة التي أوصلته إلى صياغة
نظريته حول الجاذبية .
الدفاع عن الأطروحة بحجج شخصية شكلا ومضمونا