[الاشكالية الأولى:في ادراك العالم الخارجي
المشكلة الأولى:في الاحساس والادراك
نص السؤال : هل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك ؟
الإحساس
: ظاهرة نفسية متولدة عن تأثر إحدى الحواس بمؤثر ما , وبذلك فهو أداة
اتصال بالعالم الخارجي ووسيلة من وسائل المعرفة عند الإنسان بينما الإدراك
هو عملية عقلية معقدة نتعرف بها على العالم الخارجي بواسطة الحواس ومن
خلال تعريفها تظهر العلاقة القائمة بينهما والتقارب الكبير الذي يجمعهما
مما أثار إشكالا لدى الفلاسفة وخاصة علماء النفس حول الذي يجمعهما مما
أثار إشكالا لدى الفلاسفة وخاصة علماء النفس حول إمكانية الفصل بينهما أو
عدمه, بمعنى إن شعور الشخص بالمؤثر الخارجي و الرد على هذا المؤثر بصورة
موافقة هل نعتبره إحساس أم إدراك أم أنهما مع يشكلان ظاهرة واحدة ؟
إمكان الفصل بين الإحساس والإدراك :
يؤكد علم النفس التقليدي على ضرورة
الفصل بين الإحساس و الإدراك و يعتبر الإدراك ظاهرة مستقلة عن الإحساس
انطلاقا من أن الإحساس ظاهرة مرتبطة بالجسم فهو حادثة فيزيولوجية ومعرفة
بسيطة , أما الإدراك فهو مرتبط بالعقل . أي عملية عقلية معقدة تستند إلى
عوامل كالتذكر والتخيل و الذكاء وموجه إلى موضوع معين . فيكون الإحساس
معرفة أولية لم يبلغ بعد درجة المعرفة بينما الإدراك معرفة تتم في إطار
الزمان والمكان . حيث يقول " ديكارت " : " أنا أدرك بمحض ما في ذهني من
قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني " . ويقول " مين دوبيران Maine de
Biran : " الإدراك يزيد على الإحساس بأن آلة الحس فيه تكون أشد فعلا
والنفس أكثر انتباه ... " .
وكما يختلف الإدراك عن الإحساس فكذلك يختلف عن العاطفة لأن الإدراك في نظرهم حالة عقلية والعاطفة حالة وجدانية انفعالية .
لكن إمكانية الفصل بين الإحساس و
الإدراك بشكل مطلق أمر غير ممكن باعتبار أن الإدراك يعتمد على الحواس .
حيث قال التهانوي : " الإحساس قسم من الإدراك " وقال الجرجاني : " الإحساس
إدراك الشيء بإحدى الحواس " .
استحالة الفصل بين الإحساس والإدراك :
يؤكد علم النفس الحديث على عدم إمكانية
الفصل بين الإحساس والإدراك كما أن الفلسفة الحديثة تنظر إلى الإدراك على
أنه شعور بالإحساس أو جملة من الاحساسات التي تنقلها إليه حواسه , فلا
يصبح عندها الإحساس و الإدراك ظاهرتين مختلفتين وإنما هما وجهان لظاهرة
واحدة , ومن الفلاسفة الذين يطلقون لفظ الإحساس على هذه الظاهرة بوجهيها
الانفعالي والعقلي معا " ريد Reid " حيث يقول : " الإدراك هو الإحساس المصحوب بالانتباه " .
بينما يبني الجشطالط موقفهم في الإدراك
على أساس الشكل أو الصورة الكلية التي ينتظم فيها الموضوع الخارجي ,
فالجزء لا يكتسب معناه إلا داخل الكل . فتكون الصيغة الكلية عند الجشطالط
هي أساس الإدراك . فالإدراك يعود إلى العوامل الموضوعية . فالصيغ الخارجية
هي التي تفرض قوانينها علينا و تؤثر على إدراكنا , وبذلك فهي تحد من
قدراتنا العقلية . وعليه فالإدراك ليس مجموعة من الاحساسات و إنما الشكل
العام للصورة هو الذي يحدد معنى الإدراك . فالثوب المخطط عموديا قد يزيد
من أناقة الفتاة , وذات الثوب بخطوط أفقية قد يحولها إلى شبه برميل .
لكن رد الإدراك بشكل كلي إلى الشكل
الخارجي أمر لا تؤكده الحالة النفسية للإنسان فهو يشعر بأسبقية الإحساس
الذي تعيشه الذات كما أن رد الإدراك إلى عوامل موضوعية وحدها , فيه إقصاء
للعقل ولكل العوامل الذاتية التي تستجيب للمؤثر . وإلا كيف تحدث عملية
الإدراك ؟ ومن يدرك ؟
الإدراك ينطلق من الإحساس ويتجه نحو الموضوع :
إن الإدراك عملية نشيطة يعيشها الإنسان
فتمكنه من الاتصال بالموضوع الخارجي أو الداخلي , وهو عملية مصحوبة بالوعي
فتمكنه من التعرف على الأشياء . والإدراك يشترط لوجوده عمليات شعورية
بسيطة ينطلق منها . و هو الإحساس , بكل حالاته الانفعالية التي تعيشها
الذات المدركة , ووجود الموضوع الخارجي الذي تتوجه إليه الذات المدركة بكل
قواها وهو ما يعرف بالموضوع المدرك .
إن الاختلاف بين علم النفس التقليدي
الذي يميز بين الإحساس و الإدراك , وعلم النفس الحديث الذي لا يميز بينهما
باعتبار أن العوامل الموضوعية هي الأساس في الإدراك يبقى قائما . غير أن
التجربة الفردية تثبت أن الإنسان في اتصاله بالعالم الخارجي وفي معرفته له
ينطلق من الإحساس بالأشياء ثم مرحلة التفسير والتأويل فالإحساس مميز عن
الإدراك ليسبقه منطقيا إن لم يكن زمنيا .
نص السؤال : أيهما أهم في الإدراك : العوامل الذاتية أم العوامل الموضوعية ؟
ذا
كان علم النفس التقليدي قد نظر إلى الشروط الذاتية النفسية والعقلية و
البيولوجية على أنها مجموعة العناصر الأولية والضرورية في حدوث عملية
الإدراك . وإذا كان علم النفس الحديث يعتبر ذلك خطأ وراح يصحح هذه النظرة
منطلقا من أن العوامل الموضوعية هي الضرورية في عملية الإدراك , فإلى أي
منهما تعود الأفضلية في حصول عملية الإدراك إلى الذات أم إلى الموضوع ؟
الأفضلية في الإدراك تعود إلى عوامل ذاتية :
يذهب بعض العلماء وخاصة علماء النفس
التقليدي إلى أن العوامل الذاتية مثل الاستعدادات العقلية هي التي تمكن من
الإدراك , فالإنسان عندما يكون مرتاحا تكون لديه قدرة على الانتباه
والتركيز أفضل مما يكون في حالة قلق , كما يدرك الفرد بسهولة الأشياء التي
تتفق مع ميوله ورغباته ...
وهذا الموقف نجده عند الذهنيين أمثال "
ديكارت " : " الإدراك حكم عقلي " وعند التجريبيين أمثال " جورج بركلي " :
" إدراك المسافات حكم يستند إلى التجربة " . كما يقف " بيرلو " من خلال
تجاربه على أطفال عرب ( إدراك الأشياء من اليمين إلى اليسار) وغير العرب (
إدراك الأشياء من اليسار إلى اليمين ) أن الإدراك راجع إلى دور العادة .
لكن العوامل الذاتية وحدها غير كافية ,
وإلا تمكن الجميع من الإدراك لأن قدرة العقل مشتركة كما أن القدرات
العقلية أحيانا لا يمكنها تجاوز العوائق الخارجية .
الأهمية في الإدراك تعود إلى العوامل الموضوعية :
يذهب البعض الآخر من العلماء وخاصة
علماء النفس الحديث إلى أن الإدراك يعود إلى الموضوع الخارجي , لا إلى
الاستعدادات العقلية فالشكل الخارجي للموضوع وبناؤه العام هو الذي يحدد
درجة الإدراك وهذا الرأي نجده عند علماء الجشطالط كوهلر , بوهلر و فرتيمر
الذين ركزوا على الصفة الكلية للموضوع واعتبروها أساس الإدراك فالجزء لا
يكتسب معناه إلا داخل الكل الذي ينتظم وفق قوانين يسميها الجشطالط قوانين
الانتظام و هي تتحكم في العلاقة بين الصورة والخلفية , فعندما تكون هذه
العلاقة منتظمة تبرز الصورة الفضلى أي الصيغة البارزة . أما إرادة الإنسان
فلا تتدخل إلا في حالة وجود صورتين فضليين مثلا في الشكل : وجهان متقابلان
أو مزهرية .
لكن العوامل الموضوعية وحدها غير كافية
هي الأخرى و إلا تساوى الإدراك عن جميع المدركين لأن الموضوع واحد , كما
أن لكل إنسان اهتمامه فلا يعود للصورة الفضلى الأفضلية في الإدراك عند
الجميع .
الإدراك يكون بتظافر العوامل الذاتية مع العوامل الموضوعية :
إن العلاقة بين العوامل الذاتية
والعوامل الموضوعية يبدو على أنها علاقة تنافر باعتبار أن الأولى داخلية
وتتعلق بخصائص شخصية الفرد و أحواله الذاتية . والثانية خارجية وتتعلق
بالمحيط الذي يوجد فيه الشخص , والواقع أن هذه العلاقة هي علاقة تجاور
لأننا من الناحية العملية لا نستطيع أن نفصل بين ما هو داخلي وما هو خارجي
فالفرد يدرك بالاعتماد عليهما معا .
إن حصول عملية الإدراك عند الإنسان لا
يمكن ردها إلى العوامل الذاتية وحدها فقط وإنما الإدراك عملية تتم عن طريق
التكامل والتعاون بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية .
مقالة جدلية حول الإحساس الإدراك بينالظواهرية والقشطالت
السؤال يقول : هل الإدراكتجربة ذاتية نابعة منالشعور أم محصلة نظام الأشياء ؟
المقدمة : طرح الإشكالية
يتعامل ويتفاعل الإنسان مع عالمه الخارجي بما فيه منأشياء مادية وأفراد
يشكلون محيطه الاجتماعي , يحاول فهم وتفسير وتأويل ما يحيط بهوهذا هو
الإدراك , فإذا كنا أمام موقفين متعارضين أحدهما يربط الإدراك
بالشعور(الظواهرية )والأخر بنظام الأشياء (القشتالت ) فالمشكلة المطروحة :
هل الإدراك مصدره الشعور أم نظام الأشياء
التحليل : محاولة حل الإشكالية
عرض الأطروحة الأولى
ترى هذه الأطروحة الظواهرية أن الإدراك يتوقف على تفاعل وانسجام عاملينهما
الشعور والشيء المدرك , وحجتهم في ذلك أنه إذا تغير الشعور يتغير
بالضرورةالإدراك ومن دعاة هذه الأطروحةهوسرلوهو مؤسس مذهبالظواهرية حيث
قال<< أرى بلا انقطاع هذه الطاولة سوف أخرجوأغير مكاني عن إدراكي
لها يتنوع >>وهكذا الإدراك يتغير رغم أنالأشياء ثابتة والإدراك
عندهم يكون أوضح من خلال شرطين( القصديةوالمعايشة )أي كلما اتجه الشعور
إلى موضوع ما وإصل به يكون الإدراك أسهلوأسرع وخلاصة هذه الأطروحة عبر
عنهاميرلوبونتيبقوله<< الإدراك هو الإتصال الحيوي بالعالم الخارجي
>>
النقد : من حيث المضمون الأطروحة بين أيدينا نسبيةلأنها ركزت على العوامل
الذاتية ولكن الإدراك يحتاج إلى العوامل الموضوعية بنيةالشيء وشكله ولذلك
نقول إنها نسبية أيضا من حيث الشكل
عرضالأطروحة الثانيةترى هذه الأطروحة أن الإدراك يتوقف على عامل موضوعي
ألاوهو ( الشكل العام للأشياء ) أي صورته وبنيته التي يتميز بها وحجتهم في
ذلك أن تغيرالشكل يؤدي بالضرورة التي تغير إدراكنا له وهكذا **** هذه
الأطروحة الأهمية إلىالصورة الكلية وهي هذا المعني قالبول غيوم* <<
الإدراك ليس تجميعا للإحساسات بل أنه يتم دفعة واحدة >>ومن الأمثلة
التي توضح لنا أهمية الصورة والشكل أن المثلث ليس مجردثلاثة أضلاع بل
حقيقية تكمن في الشكل والصورة التي تكمن عليها الأضلاع ضف إلى ذالكأننا
ندرك شكل اٌلإنسان بطريقة أوضح عندما نركز على الوجه ككل بدل التركيز
علىوضعية العينين والشفتين والأنف وهذه الأطروحة ترى أن هناك قواعد تتحكم
في الإدراكمن أهمها التشابه( الإنسان يدرك أرقام الهاتف إذا كانت متشابه
)وكذلك قاعدة المصير المشترك إن الجندي المختفي في الغابة الذي يرتدي
اللونالخضر ندركه كجزء من الغابة , وكل ذلك أن الإدراك يعود إلى العوامل
الموضوعية .
النقد: صحيح أن العوامل الموضوعية تساهم في الإدراكولكن في غياب الرغبة
والاهتمام والانتباه لا يحصل الإدراك , ومنه أطروحة الجاشطالتنسبية شكلا
ومضمونا .
التركيب : إن الظواهرية لا تحللنا إشكالية لأن تركيز على الشعور هو تركيز
على جانب واحد من الشخصية والحديث علىبنية الأشياء يجعلنا نهمل دور
العوامل الذاتية وخاصة الحدس لذلك قالباسكال<< إننا ندرك بالقلب
أكثر مما ندركبالعقل >> وكحل الإشكالية نقول الإدراك محصلة لتفاعل
وتكامل العواملالذاتية مع العوامل الموضوعية فمن جهة يتكامل العقل مع
التجربة الحسية كما قال كانطومن جهة أخرى يتكامل الشعور مع بنية الأشياء.
الخاتمة:
وخلاصة القول أن الإدراك عملية معقدة ينقل الإنسان من المحسوس إلى
المجردفالمحصلة فهم وتفسير وتأويل وقد تبين لنا أن مصدر الإدراك إشكالية
اختلفت حولهاأراء الفلاسفة وعلماء النفس ويعد استعراض الأطروحتين استخلاص
النتائج نصل إلى حلالإشكالية
الإدراك محصلة للتفاعل و تكامل العوامل الذاتية مع العوامل الموضوعية
المشكلة الرابعة :في الذاكرةوالخيال .
نص السؤال : هل الذاكرة مرتبطة بالدماغ وحسب ؟
إن
حياة الإنسان لا تقتصر على معرفة الحاضر فقط , فهو يعيش الزمن بأبعاده
الثلاثة , الماضي والحاضر والمستقبل , فإذا ما انقطع عن إدراك الحاضر عاد
إلى تفحص الصور الذهنية المدركة التي أصبحت من الماضي لتعاقب الزمن عليها
. وهذه الصور الذهنية التي هي في الواقع من مدركات الماضي تتطلب من
الإنسان قدرة عقلية فعالة لاسترجاعها في الزمن الحاضر مما يثبت أنها كانت
مخزنة في جانب ما تم تذكرها أي استدعاؤها إلى الزمن الحاضر , وعليه فهل
التخزين والتذكر يعودان إلى نشاط الدماغ وحده ؟ بمعنى آخر هل الذاكرة ذات
طبيعة فيزيولوجية " عضوية " ؟
الذاكرة وظيفة عضوية مرتبطة بالدماغ :
يفسر بعض الفلاسفة والعلماء الذاكرة تفسيرا ماديا بردها
إلى دور الأعضاء وخاصة الدماغ في حفظ الذكريات وفي استرجاعها حيث قال عنها
ابن سينا : " إنها قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ من شأنها حفظ ما
يدركه الوهم من المعاني الجزئية " . فوظيفة الذاكرة بهذا المعنى هي الحفظ
والتذكر , وهذا الرأي نجده عند ديكارت الذي كان يقول : " إن الذاكرة تكمن
في ثنايا الجسم " و المقصود بذلك هو الدماغ وهذا ما عبر عنه " تين Taine " بقوله : " المخ وعاء لحفظ الذكريات " .
غير أن التفسير المادي للذاكرة تبلور بشكل أكثر وضوحا مع ريبو Ribot .ومن خلال
كتابه " أمراض الذاكرة " حيث قال : " إن الذاكرة بطبيعتها عمل بيولوجي " .
كما قال أيضا : " الذاكرة وظيفة عامة للجهاز العصبي ... " فالذكريات عنده
تثبت في الجهاز العصبي أي في الدماغ الذي يعتبره بمثابة وعاء للذكريات ,
فالذاكرة بمثابة الأسطوانة تخزن الذكريات كما تخزن الأخرى الأغاني وتبعث
بمؤثرات الحاضر , والذكريات تثبت بطريقة آلية حيث تنطبق حركاتها مع الجهاز
العصبي وهي بذلك شبيهة بالعادة , وأي مرض أو إتلاف يصيب الخلايا العصبية
يؤدي إلى إتلاف الذكريات الموجودة هناك , و يكون هذا التحلل أو الفقدان
حسب قوانين ثابتة تظهر في قوله : " إن فقدان الذكريات عند التحلل الجزئي
تتبع طريقة لا تتغير أسماء الأعلام فأسماء الأجناس ... فالإيماءات أما عند
التحلل العام فالحوادث القريبة العهد فالأفكار ... فالأفعال . كما أن
عودتها تكون وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها " .
لا شك في أن للدماغ دورا في حفظ وبعث الذكريات , ولكن
ربط الذاكرة بالدماغ وحده فيه مبالغة خاصة فيما يتعلق بأمراض الذاكرة
وفقدانها بشكل مرتب وحسب قوانين .
الذاكرة وظيفة نفسية لا ترتبط بالدماغ :
يذهب بعض الفلاسفة والعلماء إلى تفسير الذاكرة تفسيرا
روحيا لا ماديا وعلى رأس هؤلاء " برغسون " الذي انتقد النظرية المادية
وخاصة نظرية ريبو في تعلق الذاكرة بالدماغ حيث يرى أنه يحدث وأن تعود فجأة
الذكرى التي كنا نظن أنها أتلفت وهذا بفعل تأثير قوي على النفس فهل من
المعقول أن يحدث ذلك لو أنها كانت نتيجة إتلاف خلايا الدماغ ؟ كما انتقد
ريبو بشدة في الذاكرة المرضية حيث يقول : " أفلا يكون من الغريب حقا أن
يمس هذا المرض هذه الخلايا بالترتيب ؟ " .
وهكذا يخلص برغسون إلى أن ريبو قد اخلط بين نوعين من الذاكرة :
أ- الذاكرة العادة : وهي ذاكرة جسمية أو حركية وهي حركات مخزونة في الجسد تكونت نتيجة تكرارها .
ب- الذاكرة الروحية : وهي ذاكرة
بسيكولوجية شعورية أو لاشعورية ) وهي نفسية خالصة تولد تامة , تحفظ ذكريات
الماضي دفعة واحدة بصورة مستقلة عن الدماغ , فهي من طبيعتها ألا تتكرر .
فالذكرى تتردد بين الشعور و اللاشعور وما الدماغ إلا أداة استحضار وما
دامت الذكرى روحية فلا معنى للسؤال أين توجد ؟ وقولنا أنها موجودة في
الفكر يكون على سبيل المجاز فقط .
لا نشك في أن الذاكرة ترتبط بالنفس , وفي أن التمييز
بين الذاكرة الحركية والنفسية يزيد الموضوع وضوحا , لكن الفصل التام بين
ما هو عضوي وما هو نفسي فيه مبالغة , والتجربة تثبت استرجاع الذكرى يحتاج
إلى سند مادي ملائم . فالذكريات قد تبعثها حركات جسمية .
الذاكرة ليست وظيفة فردية ( فيزيولوجية أو بسيكولوجية ) بل نشاط جماعي :
يذهب بعض الفلاسفة إلى تجاوز التفسير المادي والتفسير
الروحي باعتبار الذاكرة وظيفة اجتماعية بحيث تتدخل المفاهيم الاجتماعية من
تفكير ولغة و عادات ...الخ . في عملية التذكر مما يجسد التعاون بين
الذاكرات . حيث يقول " هالفكس " في كتابه " الأطر الاجتماعية للذاكرة " :
" إن الماضي لا يحتفظ به , انه يعاد بناؤه انطلاقا من الحاضر , والذكرى
تكون قوية لما تنبعث من نقطة التقاء الأطر والنسيان هو نتيجة اختفاء هذه
الأطر " . هكذا تصبح الذاكرة نشاطا اجتماعيا وليس عملا فرديا , فالذاكرة
الحقة عنده هي الذاكرة الاجتماعية الناتجة عن التفاعل بين الأفراد .
إن الذاكرة باعتبارها صفة إنسانية هي مرتبطة هي مرتبطة
بنشاط الفرد في حياته اليومية وبذلك تتدخل فيها معطيات متشبعة منها الجانب
الجسمي ممثلا في دور الدماغ والجانب الروحي ممثلا في الحياة النفسية
بجانبيها الشعوري و اللاشعوري بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية للفرد
بأطرها ومفاهيمها الاجتماعية .
لموضوع الثاني :
نص السؤال : هل النسيان مرض ؟
إن
الحديث عن الذاكرة باعتبارها قدرة تمكن صاحبها من حفظ الماضي واسترجاعه
عند الضرورة من أجل التكيف , لا يعني أنها قدرة مطلقة تتحكم في التخزين
والاسترجاع في جميع الأحوال والظروف بل يحدث وأن تختل الذاكرة فيصعب عليها
حفظ الذكريات أحيانا , كما يصعب على صاحبها أحيانا أخرى استرجاع ما تم
حفظه فتصبح الذاكرة عاجزة عن أداء دورها على الرغم من الجهد الذي يبذله
الإنسان في سبيل ذلك و هو ما يعرف بالنسيان . فهل ظاهرة النسيان عند
الإنسان حالة مرضية أم حالة عادية تعيشها الذاكرة ؟ بمعنى آخر هل فقدان
الذكريات بشكل أو بآخر في نظر العلماء يعتبر مرضا ؟
النسيان مرض : إن الذاكرة
باعتبارها نفسية تعمل على حفظ الذكريات و استرجاعها عند الضرورة فإن كل
فقدان أو عجز في الاستحضار يعتبر حالة سلبية . ومن بين العلماء الذين يرون
أن النسيان مرض ريبو الذي فسر النسيان تفسيرا ماديا يرده إلى إصابة في
الدماغ , فأية إصابة في خلايا القشرة الدماغية يؤدي حتما إلى زوال
الذكريات المسجلة عليها , مما ينتج عنه فقدان الذكريات وهذا الفقدان قد
يكون كليا فيبدأ من الحوادث القريبة العهد ويمتد إلى الأفعال والإشارات ,
كما يمكن و أن يتماثل المريض إلى الشفاء فيسترجع ذاكرته فتعود الذكريات
وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها , ومن بين الأمراض التي تصيب الذاكرة :
الأمنيزيا, الأفازيا .. ( راجع أمراض الذاكرة ) .
أما فرويد فقد اعتبر النسيان كبت في جانب اللاشعور ,
فالمريض لا ينسى كل الحوادث التي عاشها في الماضي وإنما ينسى بعض الحوادث
المؤلمة التي لا يرغب في تذكرها فهي التي تستقر في اللاشعور لأن الأنا
يعمل على إبعادها من ساحة الشعور . ونتيجة هذا التفسير فإن النسيان مرض
مهما كانت أسبابه , وهو يعيق نشاط الفرد .
لكن ليس كل نسيان مرض , فقد يكون النسيان شرطا لحياة
الذاكرة نفسها , إذ منه يكون نفسيا وتلقائيا لعدم الحاجة إليه دون كبت ولا
تلف لخلايا الدماغ .
النسيان حالة عادية : إن الذاكرة
لا تعني حفظ كل آثار الماضي ثم استعادتها جميعا , بل ينتقي الإنسان ما هو
ضروري وموافق لاهتماماته , ومن هنا يكون أمرا عاديا وطبيعيا أن ينسى إنسان
بعض آثار الماضي , ومن بين الفلاسفة الذين يرون أن النسيان حالة عادية "
برغسون " الذي اعتبر النسيان حالة طبيعية يعيشها الفرد إذ لا يتذكر من
الماضي إلا ما كانت له علاقة بالواقع الذي يعيش فيه , إذ لا يلتفت الإنسان
إلى الماضي إلا لحاجة في التكيف , إذ حاول برغسون إثبات أن الحوادث
السابقة لا تمحى , وأن الذكريات المنسية لا تتلف أبدا . ولهذا انتقد
برغسون ريبو بشدة في الذاكرة المرضية .
كما أن بعض علماء النفس الحديث يرجعون ظاهرة النسيان
إلى بعض العوامل كعامل الترك والضمور فاختفاء بعض الذكريات يكون نتيجة
تركنا لها نظرا لعدم احتياجاتنا إليها , فالإنسان يتذكر ما يلائمه وينفعه
ويفيده , فالتذكر اختيار , وبناء على ما سبق يكون النسيان ظاهرة عادية
تعيشها الذاكرة لا حالة سلبية .
لكن لا يمكن اعتبار كل نسيان حالة عادية , فقد ينسى
الإنسان بعض الحوادث التي هو في أمس الحاجة إليها ولا يمكن اعتبار ذلك إلا
حالة سلبية تعيق الإنسان في نشاطه .
النسيان من طبيعة الذاكرة :
إن الإنسان الذي يشتكي من زوال المعلومات والآثار
الماضية والذي يأسف عن عدم قدرته في استرجاع بعض الذكريات الجميلة , فيصف
ذاكرته بالخائنة هو الإنسان الذي يشعر بحاجة في نسيان ما تم اكتسابه من
معارف و خبرات ماضية حتى يفسح المجال لذاكرته في تحصيل علوم جديدة , وهو
الذي يشعر برحمة النسيان في تجاوزه لآثار الذكريات المؤلمة والحقد و
الكراهية التي تعتري الحياة الاجتماعية للناس , وهكذا لا يعتبر النسيان
حالة مرضية وسلبية دائما , كما لا يعتبر حالة عادية وطبيعية دائما .
فالذاكرة السليمة ليست تلك الذاكرة التي يصيبها النسيان
و إنما الذاكرة التي تنتقي موضوعاتها فتحتفظ بما هو ضروري لها وتطرح
الباقي جانبا فتكسب قدرة جديدة على الحفظ والاسترجاع .
إن النسيان ظاهرة تفترضها طبيعة الذاكرة فهو شرط من
شروط توازنها وسلامتها , والحكم على النسيان بأنه نقيض الذاكرة حكم ساذج
فالنسيان ليس نفيا للذاكرة و لا نقيضا لها في جميع الأحوال , فلولا
النسيان لما استطاع الإنسان أن يتكيف مع المواقف الجديدة وهذا لا يعني أن
النسيان حالة إيجابية دائما بل قد يكون سلبيا ومعيقا لصاحبه متى كان مرضيا
المحور الرابع عشر : الذكاء والتخيل .
نص السؤال : هل الذكاء هدية الآباء للأبناء ؟
يولد
الإنسان مجهزا بوسائل وأدوات تمكنه من تجاوز الصعوبات و العوائق التي
تعترضه في حياته , فالبغريزة وهي قدرة فطرية لديه يتمكن من القيام بسلوكات
مختلفة تنتهي إلى إشباع حاجاته ومطالبه , كما يأخذ الإنسان من المجتمع
أدوات أخرى تمكنه من تجاوز صعوبات وعوائق من طراز آخر , فالبعادة وهي قدرة
مكتسبة لديه يتمكن من مواجهة صعوبات الحياة اليومية التي تنتهي بتحقيق
أغراضه العلمية والعملية , غير أن هناك من مطالب وعوائق تتجاوز عفوية
الغريزة وتتحدى آلية العادة وتحتاج إلى قدرة عقلية بارعة تمكن صاحبها من
القيام بعمليات التفكير العليا ومن ابتكار حلول جديدة لمشاكل طارئة وهذه
القدرة هي الذكاء , فهل الذكاء يعود إلى تأثير العوامل الوراثية البيئية ؟
أو بمعنى آخر هل الذكاء نرثه عن الآباء أم ننتظر سخاء المجتمع ؟
الذكاء يعود إلى تأثير العوامل الوراثية ( الذكاء فطري ) :
يذهب بعض العلماء وخاصة علماء الوراثة إلى أن الصفات
الوراثية هي التي تحدد مصير الإنسان من الناحية العقلية والجسمية فالوراثة
هي التي تشكل الهيكل النفسي من غرائز وميول وطباع فيكون هذا عاطفي وذاك
غضبي , كما تشكل الهيكل الذهني وسائر القدرات العقلية فيكون هذا ذكي و ذاك
غبي , كما تشمل القدرات الجسمية أيضا فتحدد القوي والضعيف . وهذا ما أكد
عليه علماء الوراثة أمثال " مندل و مورغان "