إنّ معنى مادة « مثل » يتوزّع في معاجم اللّغة بين هذه المفاهيم التّي يختلط فيها المحسوس و المجرد: « التّسوية و المماثلة، الشّبه و النّظير، الحديث، الصّفة، الخبر، الحذو، الحجّة، النّد، العبرة، الآية، المقدار، القالب، الانتصاب، نصب الهدف، الفضيلة، التّصوير، الالتصاق بالأرض، الذّهاب، الزّوال، التّنكيل، العقوبة، القصاص، الجهد، الفراش، النّمط، الحجر المنقور، الوصف و الإبانة » 2
و لقد ورد في « لسان العرب » عن هذه المادة ما يلي: « مثل: كلمة تسوية، يُقال هذا مِثله و مَثله كما يُقال شِبْهه و شَبَهه؛ قال ابن برّي : الفرق بين المماثلة و المساواة أنّ المساواة تكون بين المختلفين في الجنس و المتّفقين، لأنّ التّساوي هو التّكافؤ في المقدار لا يزيد و لا ينقص، و أمّا المماثلة فلا تكون إلاّ في المتّفقين (...) و المَثلُ: الحديث نفسه (...) و المَثلُ: الشّيء الذّي يُضرب لشيءٍ مثلاً فيُجعل مثله، و في الصِّحاح: ما يُضرب به من الأمثال. قال الجوهري: و مَثل الشّيء أيضاً صفته. قال بن سيده: و قوله عزّ من قائل: ﴿ مَثَلُ الجَنَّةِ التِي وُعِدَ المُتَّقونَ ﴾ قال اللّيث: مَثَلها هو الخبر عنها، و قال أبو إسحاق : معناه صفة الجنّة (...) و يُقال: مَثَلُ زيدٍ مَثل فلان، إنّما المثل مأخوذٌ من المِثال و الحذو، و الصّفة تحليةٌ و نعت. و يُقال: تمثَّل فلانٌ ضرب مثلاً، و تمثَّل بالشّيء ضربه مثلاً. (...) و قد يكون المثل بمعنى العبرة و منه قوله عزّ و جلّ:﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً و مَثَلاً للآخَرِينَ ﴾، فمعنى السّلف أنّا جعلناهم متقدمّين يتّعظ بهم الغابرون، و معنى قوله مثلاً أي عبرةً يعتبر بها المتأخّرون، و يكون المثل بمعنى الآية، قال الله عزّ و جلّ في صفة عيسى على نبينا و عليه الصّلاة و السّلام:﴿و جَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلْ) أي آيةً تدّل على نبوّته (...) و المِثال: المقدار و هو من الشّبه، و المثل ما جُعل مثالاً أي مقداراً لغيره يُحذى عليه (...)و المِثال: القالب الذّي يُقدّر على مثله. أبو حنيفة: المِثال قالبٌ يُدخل عَين النّصل في خرقٍ في وسطه ثمّ يُطرق غراراه حتّى ينبسطا، و الجمع أمثلةٌ. و تماثل العليل: قارب البُرء فصار أشبه بالصّحيح من العليل المنهوك، و قيل: إنّ قولهم تماثل المريض من المُثول و الانتصاب كأنّه همّ بالنّهوض و الانتصاب. و في حديث عائشة تصف أباها رضوان الله عليهما: فحَنَت له قِسيّها و امتثلوه غرضاً أي نصبوه هدفاً لسهام ملامهم و أقوالهم (...) و قد مثُل الرّجل، الضّم، مثالةً أي صار فاضلاً، قال بن برّي: المَثالة حسن الحال (...) و الأمثل: الأفضل (...)و الطّريقة المُثلى: التّي هي أشبه بالحقّ (...) و التّمثال: الصّورة (...) ومثّل له الشّيء: صوّره حتّى كأنّه ينظر إليه (...) و المَاثِلُ: القائم، و المَاثِلُ: اللاّطِيءُ بالأرض، و مَثُلَ: لطيءَ بالأرض و هو من الأضداد (...) و مَثُلَ يمثُل: زال عن موضعه (...) و مثَّل بالرّجل مثلاً و مُثلةً: (...) نكّل به (...) و المُثلة (...) العقوبة (...) و امتثل منه: اقتصّ (...) و قالوا: مِثلٌ مَاثِل أي جَهدٌ جاهد (...) و المِثال: الفراش (...) و النمط (...) و حجرٌ قد نُقر في وجهه نقر(...) » 3
تعريف المثل في كتب التّراث و كتب الأمثال
نجد أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي قد عرّف المثل بقوله: « المثلُ ما تراضاه العامّة و الخاصّة في لفظه و معناه، حتّى ابتذلوه فيما بينهم و فاهوا به في السّراء و الضّراء، و استدّروا به الممتنع من الدّر، و وصلوا به إلى المطالب القصّية، و تفرّجوا به عن الكرب و المكربة، و هو من أبلغ الحكمة لأنّ النّاس لا يجتمعون على ناقصٍ أو مقصّرٍ في الجودة أو غير مبالغٍ في بلوغ المدى في النّفاسة » 4
و يقول السّيوطي في تعريف المثل نقلاً عن المرزوقي صاحب كتاب « شرح الفصيح » إنّه: « جملةٌ من القول مقتضبةٌ من أصلها أو مرسلةٌ بذاتها، فتتّسم بالقَبول و تشتهر بالتّداول فتنتقل عمّا وردت فيه إلى كلِّ ما يصحّ قصده بها، من غير تغييرٍ يلحقها في لفظها و عمّا يوجّه الظّاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب و إن جُهلت أسبابها التّي خرجت عليها، و استُجيز من الحذف و مضارع ضرورات الشّعر فيها ما لا يُستجاز في سائر الكلام » 5
و نجد الميداني قد استهّل كتابه « مجمع الأمثال » بعرض آراء بعض أهل اللّغة و الأدب و الكلام،إذ يذكر رأي المبرّد قائلاً: « المثلُ مأخوذٌ من المِثال، و هو قولٌ سائرٌ يُشبّه به حال الثّاني بالأوّل و الأصل فيه التّشبيه (...)، فحقيقة المثل ما جُعل كالعلم للتّشبيه بحال الأوّل، كقول كعب بن زهير : كانت مواعيدُ عُرقوبٍ لها مَثلا **** و ما مَواعيدها إلاّ الأبَاطيلُ، فمواعيد عرقوبٍ علمٌ لكلّ ما لا يصحّ من المواعيد » 6
و من ثَمّ يعرض الميداني رأي ابن السّكّيت في قوله: « المثلُ لفظٌ يُخالف المضرُوب له و يُوافق معناه معنى ذلك اللّفظ، شبّهوه بالمثال الذّي يعمل به غيره » 7
و ينتقل الميداني بعد ذلك إلى عرض رأي كلٍّ من إبراهيم النظّام و ابن المقفّع قائلاً: « و قال إبراهيم النظّام: يجتمع في المثل أربعةٌ لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللّفظ و إصابة المعنى و حسن التّشبيه و جودة الكناية، فهو نهاية البلاغة. و قال ابن المقفّع: إذا جُعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق و آنق للسّمع و أوسع لشعوب الحديث » 8
و يختم الميداني مقدّمة المجمع برأيٍ شخصيٍ إذ يقول: « أربعة أحرف سُمع فيها فَعَلٌ وفِعْلٌ، وهي مَثَلٌ ومِثْلٌ، وَشَبَه وَشِبْه، وَبَدَل وبِدْل، ونكَل ونِكْل، فمَثَلُ الشّيء ومِثلُه وشَبَهه وشِبْهُه: ما يماثله ويشابهه قدراً وصفةً (...) فالْمَثَلُ ما يُمَثَّلُ به الشّيء: أي يُشبَّه (...) فصار المَثَل اسماً مصّرحاً لهذا الذّي يُضرب ثمّ يُردُّ إلى أصله الذّي كان له من الصّفة، فيُقال: مَثَلُكَ ومَثَلُ فلانٍ: أي صفتك وصفته، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الجنَّة التي وُعِدَ المتقون ﴾ أي صفتها، ولشدّة امتزاج معنى الصّفة به صحَّ أن يُقال: جعلتُ زيداً مثلاً والقوم أمثالا، ومنه قوله تعالى:﴿ ساء مثلاً القوم ُ﴾ جعل القوم أنفسهم مثلاً في أحد القولين، والله أعلم » 9
أمّا العسكري فقد تناول ظاهرة الاقتصاد اللّغوي في المثل إذ يقول: « و لمّا عرفت العرب الأمثال تتصرّف في أكثر وجوه الكلام و تدخل في جُلٍّ أساليب القول، أخرجوا في أوقاتها من الألفاظ ليخفّ استعمالها و يسهل تداولها، فهي من أجلّ الكلام و أنبله و أشرفه و أفضله، لقلّة ألفاظها و كثرة معانيها و يسير مؤونتها على المتكلّم من كثير عنايتها و جسيم عائداتها، و من عجائبها أنّها مع إعجازها تعمل عمل الإطناب، و لها روعةٌ إذا برزت في أثناء الخطاب و الحفظ الموكّل بما راع من اللّفظ و ندرٍ من المعنى » 10
و يشير الماوردي إلى التّأثير النّفسي للأمثال قبل أن يعرض خصائصها فيقول: « و للأمثال من الكلام موقعٌ في الأسماع و تأثيرٌ في القلوب، لا يكاد الكلام المرسَل يبلغ مبلغها و لا يُؤثّر تأثيرها، لأنّ المعاني بها لائحةٌ و الشّواهد بها واضحةٌ و النّفوس بها وامقةٌ و القلوب بها واثقةٌ و العقول لها موافقة، فلذلك ضرب اللّه الأمثال في كتابه العزيز و جعلها من دلائل رُسله و أوضح بها الحُجّة على خلقه، لأنّها في العقول معقولةٌ و في القلوب مقبولة، و لها أربعة شروط:
* أحدها: صحّة التشبيه.
* و الثّاني: أن يكون العلم بها سابقاً و الكلّ عليها موافقاً.
* و الثّالث: أن يُسرع وصولها للفهم و يُعجّل تصوّرها في الوهم من غير ارتياءٍ في استخراجها و لا كدٍّ في استنباطها.
* و الرّابع: أن تناسب حال السّامع لتكون أبلغ تأثيراً و أحسن موقعاً، فإذا اجتمعت في الأمثال المضروبة هذه الشّروط الأربعة، كانت زينةً للكلام و جلاءً للمعاني و تدبّراً للأفهام » 11
الفرق بين المثل و سواه من الأشكال التّعبيريّة
كثيراً ما نجد تداخلاً بين المثل و غيره من الأشكال التّعبيريّة كالتّعبير المثلي و القول المأثور و الحكمة، لذلك وجب التّمييز بينها و توضيح خصائص كلٍّ منها بمقارنة بعضها ببعض.
الفرق بين المثل و التّعبير المثلي
يقول محمد توفيق أبو علي نقلاً عن "رودلف زلهايم" (Rudolf Sellheim): « يفترق التّعبير المثلي عن المثل في أنّه لا يعرض أخباراً معيّنةً عن طريق حالةٍ بعينها و لكّنه يبرز أحوال الحياة المتكرّرة و العلاقات الإنسانيّة في صورةٍ يمكن أن تكون جزءاً من جملة » 12
فالتّعابير المثليّة عباراتٌ قائمةٌ بذاتها تثري الكلام و توضّحه و هي تصف شخصاً أو حالةً معيّنة كقولنا « سواسيةٌ كأسنان المشط ». و يمكننا القول بأنّ التّعبير المثلي يعتمد أساساً على المجاز و هو أحد أنواع التّعابير الاصطلاحيّة في حين أنّ المثل قد يخلو منه مثل قولنا « الجار قبل الدّار ».
الفرق بين المثل و القول المأثور
و يسمّى كذلك القول السّائر، ويقول عبد الحميد بن هدوقة في مقدّمة مصنّفه للأمثال الجزائريّة إنّ: « القول السّائر يُقرّ شيئاً واقعاً مثل قولهم « رَانَا و المُوتْ وْرَانَا » أو قولهم « كَتْبَتْ التُّرْبَة »، بينما المثل قد يتضمّن ذلك و قد لا يتضمّن، فعندما يتمثّل الرّجل الشّعبي بهذا المثل: « رَاحَتْ جْوَابِي و عْشُورْ » فهو لا ينصح و لا يقرّر، و إنّما يصوّر ذهاب أمواله فيما لا غناء له فيه، كما ذهبت أموال النّاس في العهد العثماني بين الجبايات و الزّكوات » 13 و بالتّالي فإنّ الأقوال المأثورة تُقرّ عموماً واقعاً معينا و لا تحوي معن ضمنيا.
الفرق بين المثل و الحكمة
يقول محمد توفيق أبو علي: « و المقصود من المثل الاحتجاج و من الحكمة التّنبيه و الإعلام و الوعظ، فالمثل فيه الحقيقة النّاتجة عن تجربة، تلك التّي نعتبرها أُمّاً لجميع أنواع المعرفة، أمّا الحكمة فهي تحديد شرطٍ سلوكّيٍ و قيمةٍ أخلاقيّة، و قد تصدر عن رؤيةٍ حدسيّةٍ دون تجريبٍ واقعي، و هي تمتاز بطابع الإبداع الشّخصي و العناية الأسلوبيّة المتعمّدة أكثر من المثل الذّي، و إن كان ذا نشأةٍ فرديّةٍ في بعض الأحيان، يطبعه الاستعمال و الذّيوع بطابع الجماعة (...).إنّ في المثل عمقاً خاصاً لا تدركه الحكمة، مع أنّ كليهما من جوامع الكلم، إلاّ أنّ الحكمة تفيد معنىً واحداً بينما يفيد المثل معنيين: ظاهراً و باطناً، أمّا الظّاهر فهو ما يحمله من إشارةٍ تاريخيّةٍ إلى حادثٍ معيّنٍ كان سبب ظهوره، و أمّا الباطن فهو ما يفيد معناه من حكمةٍ و إرشادٍ و تشبيهّ و تصوير » 14 فالحكمة إذن تتضمّن موعظةً أو نصيحةً أو عبرة، فمن الحكم قول الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) « العلم ضالّة المؤمن » أو قوله « أغنى الغنى العقل و أفقر الفقر الحمق ».
الأمثال الشّعبية و قيمتها الأدبيّة
للأمثال الشّعبيّة قيمة أدبيّة كبيرة، و لقد أدرك العرب الأوائل قيمة هذا الكنز اللّغوى البليغ فجمعوها في كتب للأمثال، نذكر منها(مجمع الأمثال) للميدانى, (المستقصى في أمثال العرب) للزّمخشري، (جمهرة الأمثال) للعسكري، و غيرها من الكتب.
منقووووووووووووووول