الأزمة ليست اقتصادية – الحرب، القنبلة، رجال السياسة، العلماء –، الأزمة فينا، الأزمة في وعينا. فإلى أن نفهم فهمًا عميقًا جدًّا طبيعة ذاك الوعي، فنشكك ونغوص عميقًا فيه ونكتشف بأنفسنا إنْ كان بالمستطاع إحداث طفرة كلِّية في ذاك الوعي، سيواصل العالم اختلاق المزيد من البؤس، المزيد من البلبلة، المزيد من الرعب. ومنه، فإن مسؤوليتنا ليست نوعًا ما من العمل الغيري، السياسي أو الاقتصادي، بل الإحاطة بطبيعة كياننا: لماذا صرنا هكذا، نحن البشر الذين مافتئنا نعيش على هذه الأرض الجميلة البديعة.
فإذا كنتم مستعدين، إذا كانت المسؤولية مسؤوليتكم، بوسعنا أن ندرك، معًا، طبيعة وعينا، طبيعة كياننا. هذه ليست محاضرة، لكننا نحاول – أنتم والمتكلم معًا، غير منفصلين – أن نرصد حركة هذا الوعي وعلاقته بالعالم، سواء كان ذاك الوعي فرديًّا، منفصلاً، أو كان ذاك الوعي وعي النوع البشري بأسره. منذ الطفولة، نُربى على أن نكون أفرادًا، ذوي نفوس منفصلة – إذا اتفق لكم أن تؤمنوا بمثل هذا النوع من الأفكار. لقد دُرِّبتَ، رُبيتَ، أشرطتَّ على التفكير كفرد. فلأن لنا أسماء منفصلة، هيئات منفصلة – سُمر، شُقر، طوال، قِصار، بيض، سود، إلى آخره –، ولأننا نختص بميول وخبرات بعينها، ترانا نظن أننا أفراد منفصلون. لكننا الآن سنشكك في هذه الفكرة بالذات: هل نحن أفراد؟
لا يعني هذا أننا نوع من الكائنات الهلامية، ولكنْ، فعليًّا، هل نحن أفراد؟ يقول العالم أجمع، دينيًّا وبطُرُق أخرى على حدٍّ سواء، بأننا أفراد منفصلون. واعتبارًا من ذلك المفهوم، وربما من ذلك الوهم، إذ يحاول كل واحد منا أن ينجز، أن يصير شيئًا، فإنه ينافس الآخر، يقاتله. ومنه، إذا بقينا على أسلوب الحياة ذاك، لا بدَّ لنا حتمًا من التشبث بالجنسيات، بالقَبَلية، بالحرب. فلماذا نتمسك بالقومية وبالهوى الذي يحرضها، وهو ما يحدث الآن؟ لماذا نضفي كل هذه الأهمية الخارقة على القومية، وهي أساسًا قَبَلية؟ لماذا؟ ألأن في تمسُّكنا بالقبيلة، بالجماعة، نوعًا من الأمان؟ – لا الأمان المادي، بل الأمان النفسي، الإحساس الباطن بالاكتفاء، بالامتلاء. إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن القبيلة الأخرى أيضًا تحس إحساسًا مماثلاً؛ ومنه ينجم الانقسام، تنجم الحرب، النزاع.
إذا رأى المرء حقيقة هذا فعليًّا، لا نظريًّا، وإذا شاء أن يعيش على هذه الأرض – وهي أرضنا جميعًا، لا أرضك أنت أو أرضي أنا، لا الأرض الأميركية أو الروسية أو الهندوسية –، إذ ذاك ليس هناك من قومية على الإطلاق، بل الوجود الإنساني فحسب. إنها حياة واحدة – ليست حياتك أنت أو حياتي أنا، بل الحياة في كليتها. لكن هذه الفردية الموروثة ما انفكت الأديان تُديمها، في الشرق وفي الغرب على حدٍّ سواء.
والآن، هل الأمر على هذا النحو؟ إنه لأمر جيد جدًّا، كما تعلمون، أن نشك، أمر جيد جدًّا أن نتصف بذهن يشكك، لا يقبل، ذهن يقول: لم يعد بإمكاننا أن نواصل الحياة هكذا، على هذا النحو الوحشي، العنيف. ومنه، فإن للشك، للتشكيك أهمية خارقة، لا الاكتفاء بتقبُّل أسلوب الحياة الذي اتبعناه ربما طوال ثلاثين عامًا، أو أسلوب الحياة الذي اتبعه الإنسان طوال مليون سنة. وإذن، فنحن نشكك في واقعية الفردية.
الوعي يعني التيقظ، المعرفة، الإدراك، الرصد. ومحتوى الوعي هو معتقدك، لذَّتك، خبرتك، المعرفة المعينة التي جمعتَها، سواء من خلال الخبرة الخارجية أو من خلال مخاوفك، تعلُّقاتك، ألمك، عذاب الوحشة، الأسى، البحث عن شيء أكثر من مجرد الوجود الجسماني – ذاك كله هو وعي المرء وما يحتويه. قوام الوعي هو محتواه. من غير محتوى، ينعدم الوعي كما نعرفه. ذاك الوعي – وهو معقد للغاية، متناقض، يتصف بحيوية خارقة – هل هو وعيك أنت؟ هل الفكر فكرك؟ أم أنه لا يوجد سوى التفكير، وهو ليس من الشرق ولا من الغرب؟ يوجد التفكير وحسب، تشترك فيه البشرية جمعاء، أغنياؤها وفقراؤها على حدٍّ سواء. فالتقنيون، بمقدرتهم الخارقة، أو الرهبان الذين ينسحبون من العالم ويكرسون أنفسهم لفكرة ما، مازالوا يفكرون.
فهل تشترك البشرية جمعاء في هذا الوعي؟ أينما ذهب المرء، تراه يشهد الشقاء، الألم، القلق، الوحشة، الجنون، الخوف، إلحاح الرغبة. هذا كله مشترك بين الجميع؛ إنه الأرضية التي يقف عليها كل إنسان. وعيك أنت هو وعي البشرية، بقية البشر. إذا فهم المرء طبيعة هذا – أنك بقية النوع البشري، مع أن أسماءنا مختلفة، نعيش في أجزاء مختلفة من العالم، نُربى بطُرُق شتى، نكون ميسوري الحال أو مدقعي الفقر –، حين تنظر خلف القناع، تجدك مثل باقي البشر: عصابيًّا، موجوعًا، تعاني الوحشة والقنوط، تؤمن بوهم ما، إلى آخر ما هنالك. وسواء ذهبتَ إلى الشرق أو إلى الغرب، وجدتَ الأمر على هذا النحو. قد لا تستحبه، بل قد تستحب التفكير بأنك كلِّي الاستقلالية، حرٌّ، فرد. لكنك حين ترصد رصدًا عميقًا للغاية، تجد أنك بقية البشرية.
أوهَيْ، 1 أيار 1982