حديث وشرحه
أمك .. ثم أمك.. ثم أمك
بقلم تراجي الجنزوري
روي البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ومنعا وهات ، ووأد البنات ، وكره لكم ثلاثا ً : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال"
ما أعظم هذا الدين وما أجله
لقد اهتم الإسلام العظيم بتربية أفراده علي أساس من الفضيلة والخلق القويم..ويهتم كذلك بتنشئة الجيل الإسلامي تنشئة عالية سامية تبعده كل البعد عن روح الانحلال والميوعة.. وتدفع به إلي معالي الأمور ، وتجعله يغوص في البحر يستخرج درره ولآلئه ، همه في ذلك رقي أمته دنيا ودينا ً .
ولهذا نجد في هذا الحديث سمو الغاية ، ونبل الدعوة ، وقدسية الهدف الذي يسعى إليه الإسلام العظيم من أجل أن يبقي أفراده مجتمعين متماسكين متعاونين (كأنهم بنيان مرصوص) تحكمهم المحبة ، وتربطهم الأخوة ، ويجمعهم الإسلام في إطاره الإنساني الرحيم ، إطار المحبة والمودة والإخاء.
فالرسول صلوات ربي وسلامه عليه يبين في هذا الحديث الشريف الأمور التي يكرهها الله سبحنه وتعالي ويمقتها ويبغض أن يرى عباده عليها .
أول هذه الأمور:
" عقوق الأمهات "
أمر مخز ومؤسف أن يسيء الإنسان إلي أولى الناس بالرعاية وأحقهم بالعناية وهي الأم التي " حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً "
الأم التي حنت عليه فغذته بلبانها ، وغمرته بحنانها ، وآثرته على نفسها وراحتها.. فشقيت من أجل راحته ، وتعبت من أجل سعادته ، وتحملت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى وليدها زهرة يانعة تعيش بين أزهار الربيع.
فكم من ليلة سهرت من أجل راحته لتطرد عنه شبح الخوف.. أو تزيل عنه ألم المرض.
وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت تحمله علي يديها وهي متعبة مثقلة كي تواسيه في وقت شدته ومحنته.
فهل يليق بعد كل هذا أن يسلك طرق العقوق ، أو يجنح إلي الإساءة والعصيان .
دقيقة حداد : إن صح التعبير- يقفها الجميع مسترجعين من أجل وفاة "وبالوالدين إحسانا" .
إنها فاجعة العصر الذي نحياه ، يقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم ) :
" إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه.. قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه ؟
قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه "
بل الأمر أفظع من ذلك :
فهذا أحدهم ..بلغ أبوه من الكبر عتيا..ليس له ولد غيره..الوالد آتاه الله مالا وعقارا..كتب كل ذلك لابنه..زوجه بأجمل الجميلات..أسكنها قصر أبيه الذي وهبه إياه..وبعد فترة من الزمن إذ بهذه الزوجة تتنكر لوالده ..ثم تطلب من زوجها طلبا غريبا مريبا.
ترى ما هذا الطلب ؟
طلبت منه: إما أنا .. وإما أبوك.
فقال لها أي شيء غير هذا؟
قالت: هو ذاك لا غيره .
فقال وماذا أفعل في أبي ؟
فردت عليه بكل برود : اقتله..
فأطاعها الغبي وانطلق بأبيه في سيارته الفارهة موهما ً إياه بأنه قد أخرجه للفسحة والنزهة.. وفي وسط الصحراء أنزله..ومن الخلف قيده.
عندها أيقن والده بالهلاك..فتوسل إليه بكل التوسلات..حتى أنه قبل قدمه..فلم يحرك له ساكنا.
فقال له الوالد: فإن كنت لابد فاعلا ً فهناك عند هذه الصخرة..ولا تسألني ولم هذه الصخرة ؟
فلطمه الغبي باليد فانكفأ علي وجهه ..فأخبره أنه قد قتل أباه عندها.. فنفذ الغبي جريمته.
وآخر استجابة لرغبة زوجته يلقي بأمه من الدور الرابع .. " إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ "
الأمر الثاني:
(ومنعا وهات )
أي يمنع ما وجب عليه من حق للغير .. ويطلب ما لاحق له فيه
فهذا أمر ينبغي اجتنابه.. فالإنسان يكون ظالما بمنع ما وجب عليه من حق وبطلبه ما ليس له بحق.
فهناك تكاليف عدة سواء كانت مالية أو اجتماعية واجبة علي الإنسان ، عليه أن يؤديها علي الوجه المطلوب ، فإذا منعها كان ظالما ، ولقد جاء الوعيد لمن صار هذا ديدنه
" فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ "
الأمر الثالث
وأد البنات
مما يبغضه الله ويحرمه الدين فهو ذلك الأمر الشائن المتناهي في القبح والإجرام وهو " وأد البنات "
ووأد البنات: أي دفنهن وهن أحياء، وكان هذا من صنيع أهل الجاهلية ، وأول من فعل هذه الفعلة الشنيعة " قيس التميمي " حين أسرت ابنته ، ثم أطلق سراحها فوأدها تخلصا من عارها .
قال تعالى:
" وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ "
" أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ "
فواجع ومواجع
يخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم ) يتفقد أحوال أصحابه ، فيجد عبد الله بن مغفل وقد اعتراه الهم والكرب.
فقال : يا عبد الله ما أهمك ؟
قال : يا رسول الله..ذنب فعلته في الجاهلية..
قال: وما ذاك؟
قال: يا رسول الله.. كنت امرء ً رحالة..فتركت امرأتي وهي حامل..ثم عدت إليها بعد مدة ليست بالقصيرة..فوجدتها وضعت بنتا هي أجمل من القمر..فامتلأ قلبي حبا لها..ولكن سرعان ما تذكرت سفاحها وعارها..فقلت لامرأتي جهزيها وهي تعلم مرادي.
فقالت: اتق الله ولا تضيع الأمانة.
فرق قلبي ولكن سرعان ما تذكرت سفاحها وعارها..فقلت جهزيها فجهزتها..فانطلقت إلي بئر قد غيبته في الجاهلية..فلما وقفت علي شفير البئر.
إذ بالفتاة تقول:
يا أبت اتق الله ولا تضيع الأمانة.
فتحاملت علي نفسي وألقيت بها في البئر..فلما وليت سمعت هاتفا يقول:
يا عبد الله..قد ضيعت الأمانة.
فإذ برسول الله(صلى الله عليه وسلم )وقد اغرورقت عيناه بالدموع وقال :
"والله لو كنت مقيما ً علي أحد من الجاهلية حد لابتدأت بك ولكن الإسلام يجب ما قبله".
حقا..إنها فاجعة مؤلمة لا يمحوها إلا الإسلام .
وما أعظم هذا الدين..وما أرحمه..وما أعدله..فقد أكرم المرأة إكراما ما بعده إكرام.
الأمر الرابع
قيل وقال
والذي حذر منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) والذي يبغضه الله ويمقته..فهو كثرة القيل والقال، وكثرة الجدال والخصام ،وكثرة الكلام تجر إلي الوقوع في المعاصي والمحرمات وقد نهي الله تعالى عن ذلك بقوله :
" وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ "
إذا أردت أن تحيا سليما معافا....من الأذى وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ..فكلك عورات وللناس ألسن
"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
"وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا "
أعاذنا الله وإياكم .
الأمر الخامس
كثرة السؤال
فهو كثرة السؤال عما لا يعني ولا يفيد.. فالمؤمن دائما يشتغل بما يهمه ويعنيه ويدع ما لا فائدة منه.
وقد قال (صلى الله عليه وسلم ) :
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
وكثرة السؤال سبب من أسباب الهلاك يقول (صلى الله عليه وسلم ) :
"إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "
وأخيرا :
ينهي رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عن تبذير المال وصرفه في غير الوجه المشروع ، فإن ذلك يدعو إلي الحسرة والندم ، ويدفع الإنسان إلي ذل السؤال كما قال تعالى :
" وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً " والناظر لأموال المسلمين يجد أنها تصرف في غير الوجه المشروع.
فكم مليار تصرف على السجائر والدخان والبانجو.
وكم مليار تصرف علي الإعلام الغير هادف .
وكم مليار تصرف على المحمول فيما لا فائدة منه .
وكم مليار يتم إنفاقها على كرة القدم..
وكم.. وكم........
اعلم يا رعاك الله أنه :
" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها..وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه "
وأختم ببلاغة الرسول في هذا الحديث:
أولا: قوله (صلى الله عليه وسلم ) "منعا وهات" فيه طباق إيجاب وهو من المحسنات البديعية
ثانيا: قوله (صلى الله عليه وسلم ) "عقوق الأمهات ووأد البنات" فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالسجع..ومثله"قيل وقال وإضاعة المال"
ثالثا: قوله (صلى الله عليه وسلم ) "كره لكم قيل وقال"جملة خبرية من الضرب الابتدائي..تفيد المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة..ويسمى فائدة الخبر.