الصوفية أو التصوف هي نزعة دينية تختلف عن الفلسفة في انها تلتمس الحق عن طريق تطهير النفس واعدادها لقبول الالهام الالهي . فأهل التصوف يعتقدون أن النفس من اصل طاهر شريف ، تلوثت بادران المادة عندما حلت بالجسد وخضعت له فاستغلها في اغراضه الحيوانية أسوأ استغلال ، لذلك فان النفس تأمل في التحرر من عبوديتها واستعادة طهارتها السابقة وذلك بقهر الجسد واذلاله وحرمانه رغباته ، فإذا تم ذلك سمت نحو الله واستمدت منه المعرفة الصحيحة وسلكت بهديه طريق الحق . َ
هذه النظرة الزهدية سميت بالصوفية لاشتقاقها من ( الصفاء ) ، لأن اربابها عرفوا بصفاء القلب ، أو ان الكلمة اشتقت من ( الصفة ) وهي السقيفة التي كان فقراء المتعبدين يجتمعون تحتها خارج مسجد المدينة . ويرى البعض انها من ( الصوف ) وهو لباس النساك . َ
وللتصوف اصول عدة ، فالنزعة التي يمتاز بها وهي التقشف ونبذ حطام الدنيا والاستغراق في الاعتبارات الروحية ، وهي نزعة مشتركة بين مذاهب عدة . ففي فلسفة الهنود زهد ، وكذلك في فلسفة الاسكندرانيين وفي المسيحية والاسلام . فليس من السهل ان نرد التصوف الاسلامي في الميل الزهدي الذي صحب التعاليم الروحية الى الاسلام وحده ، ولا أن نجعله وليد الرهبنة المسيحية ، ولا هو فارس او الهند او مستخلص من فلسفات اليونان الروحية . ولكنه ربما اخذ بعض مبادئه ومناهجه عن بعضها وشارك سائرها في بعض مبادئه .َ
لكن مما شك فيه فإن أسس الايمان في التصوف الاسلامي هي من الاسلام . فعقيدة التوحيد والتصديق بالرسالة والتقيد بالفرائض هي من اصل اسلامي . وقد التزم بذلك متصوفة القرنين الاول والثاني من الهجرة وبعض متصوفة القرن الثالث والرابع ، غير ان هذا التصوف لم يبق بمعزل عن المؤثرات الخارجية كالتأثير المسيحي في فكرة الحب الإلهي التي دعت اليها رابعة العدوية ( 186 هـ ) ، وكذلك مظاهر العزلة التي نجدها في حياة بعض السالكين بما يشبه حياة الرهبان . كذلك لا بد من الاشارة الى التأثير الهندي في فكرة الفناء ( النرفانا ) وعقيدة ( الحلول ) عند غلاة الصوفية وإلى بدعة حلقات الذكر وفنون تعذيب الجسد . اما التأثير اليوناني والفارسي فهو اكثر وضوحا في فكرة ( الاشراق ) و ( الاتصال ) ، فقد تأثر متصوفة الشرق بالقديس ( افلوطين ) الذي عاش في صعيد مصر قبل ان يرأس الكنيسة في روما ويؤسس مدرسته فيها عام 244 م . ويعتبر افلوطين في تاريخ الفكر الفلسفي انه وبلا منازع اعظم واهم فلاسفة الافلاطونية الجديدة واكثرهم تأثيرا لما لأفكاره من تأثير في تاريخ الفكر الفلسفي ، فقد تأثر الفكر الاوربي بفلسفته من خلال تأثيره على فلسفة ( اوغسطين ) الذي قرأ اعمال ( افلوطين ) وهي ما يسمى بـ ( التاسوعيات ) المعروفة باسم ( انيديز ) وهي عبارة عن تسع مقالات ، وقد تأثر العرب الذين اتبعوا فلسفة ارسطو بالكتاب الرابع الذي يهتم بالروحانيات ، ومن هنا كان تأثيره على المتصوفة المسلمين كبيرا . َ
وللتصوف الاسلامي ادوار شأنه شأن أي نشاط فكري أو وجداني ، فقد نشأ اولا بسيطا ، ثم اتسع وتطور بحكم النمو الطبيعي وبتأثير العوامل الخارجية . وعموما يمكن القول ان التصوف الاسلامي قد مر بثلاثة ادوار رئيسية هي الزهد العلمي ، الفلسفة الصوفية وأخيرا لمبادئ المتطرفة .َ
1 - دور الزهد العلمي : لم يكن التصوف الاسلامي في بدايته مدرسة فكرية متميزة بذاتها ، بل كان مجرد طريقة زهدية تتصف بالرغبة الشديدة في ممارسة شعائر الدين والاستهانة بأمور الدنيا مع القيام بفرائض الدين على اكمل وجه . وتعود هذه النزعة الخالصة في العبادة الى ما اتصف به الدين الاسلامي من صفات حميدة تعلي من الاعتبارات الروحية والفضائل الخلقية والقيم الانسانية والاقتداء بالصالحين ، خاصة الرسول والصحابة . وبدأت هذه النزعة اكثر وضوحا وتميزا في تعاليم الحسن البصري ومواعظه الدينية في مسجد البصرة ، ولهذا عده المتصوفة رئيسهم الأول . غير ان اول من اطلق عليه وصف ( الصوفي ) هو ابو هاشم الكوفي الذي كان يرتدي الصوف تقشفا ويلازم المسجد في الكوفة .َ
2 - دور الفلسفة الصوفية : بدأ التأثر الخارجي في النزعة الزهدية عندما اختلطت الشعوب الاسلامية بالامم الاخرى نتيجة الفتوحات الاسلامية خاصة في الهند وفارس والروم . وتقول كتب السيرة أن أول المتأثرين كان ابراهيم بن ادهم ( 160 هـ ) أمير بلخ ، إذ انه ترك ملكه ونبذ أمواله ولجأ الى المسجد يعيش فيه عيشة الزهاد المتقشفين ويكتفي بالقليل من الطعام ويواصل القراءة والصلاة . َ
ثم اتجه المذهب الصوفي بعد ذلك اتجاهين فيهما فكر وفلسفة ، وإن أنكر البعض هذا القول . الاتجاه الأول فيه التأثير اليوناني ، ويبرز ذلك في مؤلفات الحارث بن اسد المحاسبي ( 223 هـ ) ففيه تشديد على التماس المعرفة الحقة بالاتصال الاشراقي . وقد جرى على نفس المنوال ذو النون المصري ( 247 هـ ) والسهروردي . أما الاتجاه الثاني فقد تأثر بالطابع الهندي حيث تبرز فكرة الفناء الروحي ، وهذا الطابع هو الذي يتحمل بعد ذلك كل شطحات المتصوفة كما يذهب بعض المؤرخين .َ
3 - دور المبادئ المتطرفة : ومن رواد هذا الدور ابو منصور الحلاج ( 310 هـ ) وكان متأثرا بتعاليم أبي يزيد البسطامي فطغى على منهجه الزهدي التأثير الهندي . وقد غالى الحلاج في فكرة الفناء ، حتى زعم انه يتحد عند النشوة بالذات الإلهية ويغدو معها ذاتا واحدة مما حمله على القول : « أنا الحق والحق أنا » ، أو قوله الشاطح : « سبحاني ما أعظم شأني » ، وهو ما عرف بالشطحات الصوفية . وقد أثارت مواقف الحلاج استنكار الناس فقبض عليه وقتل . ثم جاء الغزالي وحاول ان يحرر التصوف من مثل هذا الغلو ويربط أصوله بالشرع ويحببه الى قلوب الناس . َ
وقد ترك المتصوفة مؤلفات عديدة تناولت العقيدة والنظام والمصطلحات وبينت الطرق امام السالكين . ولعل اكثر الكتب جدالا بين الناس كتاب ( اللمع ) لأبي نصر السراج وهو كتاب هام يبحث عن فلسفة التصوف ، وكتاب ( قوت القلوب ) لأبي طالب أكملي في شرح العقائد ، وكتاب ( الرسالة القشيرية ) لأبي القاسم القشيري ، وكتاب ( الفتوحات المكية ) لابن عربي وهو من اوسعها انتشارا . َ
واذا اردنا ان نسلط الضوء على مباحث الفلسفة عند المتصوفة فإنه يتعذر ان نجدها مفصلة عند كل واحد منهم . ولكن ثمة اتفاقا غير مدبر بينهم . ففي مبحث « الوجود » فإنه لا وجود حقيقيا للعالم بل هو عدم ، فوجود العدم مع الذات الإلهية ذات القدم هو وجود ضروري ، لأن بالعدم يعرف الوجود الحقيقي . والوجود المادي الذي نشاهده فيه نقص لأنه انفصال عن الله ، والكمال موجود فقط في « العدم المادي » لأنه جوهر الرجوع الى الله . َ
أما « المعرفة » فمصدرها الصحيح هو القلب لا العقل ، فإذا أضاءه الله بنوره الايمان غدا مكانا صالحا لالهام الحق ، والقلب هو المرآة التي ترسم فيها الصفات الإلهية ولذلك جاء قولهم : « فتش عن الله في قلبك فهناك عرشه ».َ
أما الاخلاق الصوفية فتذهب في القول بأن الشر ليس له وجود مطلق في العالم بل هو موجود اعتباري ، ذلك أن الكون صورة لله وليس في صورته تعالى شر أصلا . فكل ما يظهر لنا في العالم أنه شر ، هو عند الله خير سمح الله بوجوده ليعرف به الخير ، وسبيل الخلاص من الشر هو الحب الإلهي . والانسان الكامل هو خلاصة الحقيقة الكونية وظل الله على الأرض وقد تجلى في آدم وعيسى ثم في الحقيقة المحمدية. ( بقلم فراج الشيخ الفزاري /جريدة الوطن القطرية في 19سبتمبر 1998 م ) . َ